Friday, November 21, 2014

أول ثلاث ثورات في تاريخ مصر


بدأت ثورات المصريين في مرحلة مبكرة جدا من تاريخ مصر القديم، وربما كانت أول ثورة عرفتها البشرية في مصر، وبالبحث في التاريخ القديم نكتشف أن أول ثورة كانت ثورة دينية وقد حدثت في عصر الأسرة الثانية (حوالي 2890-2686 ق.م)، والثورة الثانية كانت في نهاية عصر الأسرة السادسة (حوالي 2323-2150 ق.م) وكانت ثورة اجتماعية، بينما كانت الثالثة ثورة قومية، أو يمكن تسميتها بـ"حرب التحرير" فقد كانت ضد الهكسوس، في أواخر عهد الأسرة السابعة عشر (حوالي 1680-1580 ق.م).



 الثورة الأولى: الثورة الدينية

هي أول ثورة في التاريخ القديم، ولعلها مفارقة غريبة أن تكون أول ثورات المصريين ثورة دينية، فقد تمرد الشعب في عصر الأسرة الثانية على عبادة حورس إله الشمال، وبدأوا في عبادة "ست" إله الجنوب، حتى أن الملك نفسه "سخم أب" غير اسمه وانتسب للإله ست ليصبح "ست بر إب سن"، وبعد نجاح الثورة حدثت تغيرات جذرية واسعة، وتقلصت صلاحيات الكثير من المناصب العليا، وزادت مساحة الحريات الدينية، وحدث تقدم واسع في مختلف نواحي الحياة.



الثورة الثانية: الثورة الاجتماعية

جلس الملك بيبي الثاني - الأسرة السادسة - على عرش مصر وهو في السادسة من عمره خلفا لأخيه، وطال عمره حتى بلغ المئة فكانت فترة حكمه 94 عاما هي الأطول في تاريخ ملوك مصر، وكانت نهاية عهده - بطبيعة الحال لمن يطول جلوسه في الحكم - نكبة على البلاد، فبدأت حالة الحكومة في الضعف وفقد الملك سيطرته على زمام الحكم، والتف حوله المنافقون، وفي نفس الوقت ذات نفوذ حكام الأقاليم واستقلوا عن السلطة المركزية، وفرضوا ضرائب ظالمة وأهملوا إصلاح الأراضي الزراعية، وانضم لهم الكهنة غير مبالين بمعاناة الناس، وكلما ذهب إليهم مظلوم بشكوى طالبوه بالطاعة ووعدوه بحسن الجزاء في الآخرة، بدلا من الانضمام إليهم في وجه ظلم حكامهم، فانتشرت بين الناس دعاوي التمرد والعصيان، فسرت موجة الغضب والإضرابات في مصر كلها، حيث حطم المصريون حاجز الخوف لأول مرة، وثاروا ضد الحكام وموظفي الدولة ورجال الدين، وكانوا يعتصمون في أكبر المعابد ويطرقون أبوابها ويهتفون بصوت عالٍ لإجبار الملك على سماع مطالبهم.

كانت ثورة اجتماعية طاحنة ضد كل شيء حتى الآلهة، وقد وصفها المؤرخون بأنها أول ثورة شيوعية في التاريخ، ووصفها الفراعنة، حيث كان حاكم كل إقليم يطلق على نفسه اسم فرعون وقتها أنها ثورة الرعاع، بينما هي في واقع الأمر كانت أيضا أول ثورة جياع، وسادت الفوضى وفلت الزمام من أيدي قادة الثورة نفسها.

والغريب أن تلك الثورة بدأت بمجموعة من المنشورات والشعارات كانت بدورها هي الأولى من نوعها مثل: "الأرض لمن زرعها، والحرفة لمن احترفها، وليس للسماء وصاية على الأرض". واستمرت حوالي سبع سنوات.



الثورة الثالثة: الثورة القومية

هي أول ثورة قومية، وكانت ضد الهكسوس الذين احتلوا مصر لأكثر من قرن ونصف، وقاد تلك الثورة ثلاثة من ملوك الأسرة السابعة عشر (سقنن رع الثاني، كاموس، أحمس الأول).

وقد بدا سقنن رع ثورته ضد الهكسوس وحقق بعض النجاح ولكنه قتل في إحدى المعارك، ثم جاء بعده ابنه الأكبر كاموس، الذي حقق انتصارا أكبر بتقدمه نحو عاصمة الهكسوس في الشمال، وقام بتأمين الجنوب ضد هجمات محتملة من أمير النوبة، كما قضى على تمرد بعض أتباعه، وقد قتل أيضا ثم انتقل الحكم إلى أحمس الأول الذي واصل الحرب ضد الهكسوس حتى طردهم،  وأسس الأسرة الثامنة عشرة.



شمعى أسعد



مراجع المقال:

- موسوعة مصر القديمة - سليم حسن - مكتبة الأسرة 2000.

- موقع مكتبة الإسكندرية.

- موسوعة ويكيبيديا.

- عدة مقالات وأبحاث متفرقة على الإنترنت.









Tuesday, November 04, 2014

وللشتائم أصول.. وتاريخ

لكل بلد قاموسها في الشتائم، تعتمد مفرداته على عدة عوامل تاريخية وثقافية واجتماعية ودينية وعرقية، حيث تنتج كل تلك العوامل مفردات نابية يختلف مفهومها من لغة لأخرى، فبينما تعتمد اللغة العربية في مفهومها لتلك المفردات على كونها تمس أمورا مثل الجنس، المثلية، التلفظ على أفراد العائلة كالأم والأخت، التشبيه بالحيوانات، الكره العنصري، الدين، نجد اللغة الصينية يرتكز مفهومها للألفاظ النابية على سب أفراد العائلة، بينما في اللغات الدرافيدية هي مساواة الناس بالحيوانات، أما في اليابانية فعدم مراعاة أنظمة الأدب وإهانة الذكاء بجانب الألفاظ الجنسية هي المفهوم السائد عن معنى الكلمات النابية.

والشتائم الجنسية هي العامل المشترك بين أغلب اللغات والثقافات، وهذا يعكس نظرة دونية قديمة للجنس ربما تعود إلى الإنسان البدائي قبل أن يدرك أنه سبب وجوده واستمراره. وفي مصر تعود بعض الألفاظ إلى عهد الفراعنة ولكنها كانت تخص فعل الجنس نفسه ولم تكن تمس المرأة بشكل عام، أو الأم بشكل خاص، فاحترام المصري القديم للأنثى منعه من إدراجها في قاموس الشتائم. ولكن بعد عصور عديدة وبعد دخول المماليك مصر وبعض الدول العربية، تغيرت الثقافة العامة وتغير معها كل شيء، حتى الشتائم.

وقدر صدر في 1995 كتاب بعنوان "تراث العبيد في حكم مصر المعاصر.. دراسة في علم الاجتماع التاريخي" عن المكتب العربي للمعارف، وبرغم تفرد الكتاب في تحليله لكثير من سلبيات المجتمع المصري، ومحاولة تقصي الأصل التاريخي لها، إلا أن كاتبه لم يشأ ذكر اسمه واكتفى بكتابة الاسم هكذا "دكتور: ع .ع"، ويقول في مقدمة كتابه إن هذا البحث يتناول مصر المعاصرة ولكنه يعود بالحدث المعاصر إلى بداية تاريخ حكم الرقيق الأبيض في مصر، يقصد المماليك كما كان يسميهم.

ومن بين الأمور التي يتعرض لها هذا البحث القيم هو أصول بعض الشتائم ودلالاتها الاجتماعية والتاريخية، حيث يذكر أنه "لم يظهر السب والاستهزاء بالعضو التناسلي للأم إلا في العصر المملوكي، وازداد في العصر العثماني وهو مملوكي في صميمه أيضا، واتسع في عصر الأسرة العلوية"، ويفسر الكاتب ذلك بأن "المملوكي في الأصل لا أسرة له، وهو لا يعرف أباه أو أمه، وليس له سلالة وقد يقرأ في عيون أهل البلاد ما يفيد ذلك، لذلك فهو غير حريص على شرف أهل البلاد أو صحة أنسابهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأقرب عضو لتلويث محدثه هو اتهام (ك. أمه) أو (ك. أخته)".
ويضيف، "أما العبارات المتعلقة بالأخت أو بمؤخرة الرجل فلم تشع في مصر وإنما في الشام، فالشوام أكثر بياضا من المصريين، وأكثر امتلاء لذا فقد وجد المماليك في (ك. أختهم) و(ط. أبوهم) مجالا للتعامل على السواء، ورغم اندماج المماليك في المجتمعات العربية والإسلامية فإن الموروثات ظلت كما هي".

والتفسير أن السب باستخدام العضو التناسلي للأم سببه في الأصل عقدة نقص عند المملوكي مجهول النسب، جعلته ينظر للمصري معلوم النسب نظرة حقد، وبالتالي حين يسبه فلابد أن يطعن في نسبه كأنه يقول له أنت ابن هذا الجزء من جسم أمك ولا تعرف من أباك، وبالتالي يصبح استخدام أو ذِكر الأم في الشتائم هو في واقع الأمر هجر لثقافة مصرية قديمة كانت تحترم المرأة، لثقافة دخيلة مملوكية مجهولة النسب مثل من أتوا بها.

شمعى اسعد

المقال على دوت مصر





Wednesday, October 15, 2014

الحكاية حكاية شعب



قامت في مصر على مدار عقود طويلة مضت، كثير من الثورات وحركات التغيير، وفي كل مرة كانت تحدث حالة نشوةEuphoria ، حيث تصير الأحلام بوطن أفضل على وشك التحقق، فالحاكم المستبد سيذهب بلا رجعة وسينتهي الظلم، وستبدأ مصر عهدا جديدا ستحصد نتائجه الأجيال القادمة، بعدما دفع الجيل الذي قام بالثورة الضريبة كاملة من أجل مستقبل رائع لأبنائهم وأحفادهم. ثم بعد عدة عقود يأتي الأبناء والأحفاد يحلمون بالعدل والمساواة، وحين يفقدون الأمل في تحقيق ذلك يثورون على دول الظلم، من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، التي ستثور مجددا مطالبة بـ"عيش حرية عدالة اجتماعية". 

الثورات فى حياة الشعوب، بكل ما تحمله من مشاعر وانفعالات وتحولات، هي حالة استثنائية، الأصل فيها أن تحدث مرة واحدة في زمن قريب، ولو شبهناها بالأحداث التي نمر بها في حياتنا الشخصية، تكون كالثانوية العامة مثلا، أو الخدمة العسكرية، أو أي من مراحل التحول الاستثنائية التي يكون تكرارها صعبا وأكثر كلفة. فأن تتكرر الثورات في تاريخنا على فترات قريبة فهذا يعني أن هناك مشكلة لم تحل من البداية، ولهذا فالثورات عندنا كالولادة المتكررة، أي أن مصر تلد كثيرا، وفي كل مرة يكون المولود مشوها، مما يجعل الأم تنتظر وليدا جديدا وهكذا تظل "الثورة مستمرة". 

وإذا كان المنتج دائما به نفس المشكلة، والحاكم حين يصل للسلطة يتحول فيما بعد لحاكم مستبد، يصبح السؤال: هل نثور مرة أخرى فنصل لنفس النتيجة، أم نبحث أصل المشكلة ربما كانت في المادة الخام نفسها؟.

في كتاب "تراث العبيد في حكم مصر المعاصر.. دراسة في علم الاجتماع التاريخي" الصادر عن المكتب العربي للمعارف عام 1995، لكاتبه الذي رفض ذكر اسمه واكتفى بالحروف الأولى "دكتور: ع.ع"، يرصد ويحلل ويمسك بأصول كل ما شاب مجتمعنا من سلبيات أفسدت مواده الخام ففسد المنتج، ويرجع بذلك إلى عصر المماليك الطويل في تاريخ مصر، وكيف انتقل إلينا التراث المملوكي بسلوكياته وأخلاقياته التي تورث كما تورث الصفات الجسمانية، وتأثير ذلك في كل نواحي الحياة سواء اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا. 

فالمماليك، الذين تم جلبهم إلى مصر كرقيق أبيض، لم يتولوا الأعمال الشاقة كأي عبيد، إنما أسندت لهم أعمال الحكم والإدارة وكانوا محور بلاط الحاكم، وبذلك صاروا (الرقيق حاكم الأحرار)، ومن الطبيعي أن يتفنن العبد عندما يصبح حاكما في الإيقاع بين مجموعات العبيد التابعين له، ونتج عن ذلك تبلور مفاهيم "المهموز" و"الدبوس" و"الزنب جمع زنبة"، وكل أمير مملوكي يحرص أن يكون له المماليك (بتوعه)، وإذا وصل للعرش حرص على تكوين مجموعة أخرى تكون (بتاعته) لأنه لا يضمن ولاء المجموعة التي كان منها، وهكذا ظلت فكرة (البتاع) و(البتوع) تتوارث من جيل إلى جيل، فلابد للمدير العام أن يكون له (بتوع) غير بتوع المدير السابق، ولا يمارس المدير أو المحافظ أو أي مسؤول عمله سوى من خلال هذه المجموعات، لا من خلال القوانين واللوائح، وهذا يفسر سر عدم تفعيل القانون في أحوال كثيرة، حيث يحل عوضا عنها أوامر أو توجيهات أو إرادة القيادة أو مصالح البطانة المحيطة. 

والعلاقة المملوكية أساسها الخوف سواء خوفهم من الأمير أو خوف السلطان من تآمر المماليك، أو خوف المماليك من بعضهم البعض، ومن الطبيعي ألا يرحب المماليك القدامى بالمملوك الجديد المنضم إليهم خوفا أن ينال حظوة أميرهم، كما أنه سيشاركهم اللحوم والخبز فيقل نصيبهم، وهذا أحد الأسباب التي تفسر لماذا يتصارع المصريون في الخارج صراعا لا تشهده الجاليات الأخرى. كما أن مبدأ "الحسنة تخص والسيئة تعم" هو أيضا تراث مملوكي، فإذا تفوق جندي نال التكريم وحده بينما إذا أخطأ أحد الجنود فالكتيبة كلها تعاقب، الأمر الذي يفسر كرهنا للنجاح والناجحين. 

وحتى الصفات التى تبدو إيجابية مثل "الجدعنة"، ارتبطت فى تراث المماليك بالخروج على القوانين، فكان ينظر إلى اللصوص والخارجين على القانون بشيء من الإعجاب باعتبارهم (جدعان) و(عيال آخر شهامة)، وهذا يفسر التعاطف النسبي مع المجرمين والخارجين على القانون والدولة بعد كل مواجهة مسلحة، وكلها مفاهيم من بقايا تراث الرقيق الأبيض. 

وعلى المستوى الاقتصادي، اعتاد المملوكي أن يحصل على المال من جهد وتعب الآخرين من خلال (الريع) أو السمسرة والعمولة، أو "تجارة النفوذ" حيث يسعر البضاعة وفق نفوذه هو، بجانب ما يناله من بقشيش، وكانت أحد وسائلهم للوصول للسلطة هو تجويع السوق حتى تحدث الاضطرابات فينضم لهم الناس ضد المجموعة الأخرى الحاكمة. وكانوا يقومون بسلب المتاجر والأسواق وقت الفوضى وغياب السلطة، وقد رأينا بعد ثورة يناير واختفاء الشرطة من الشوارع كيف تم سلب ونهب الأسواق الكبيرة. 

كما يطرح الكتاب سؤالا آخر هو: لما لم تثمر حركة التغريب (الأخذ بأساليب الحضارة الغربية في الحكم والإدارة) النتائج نفسها التي أثمرتها في الغرب؟ ويجيب بأن تراث المماليك هو الذي يحول بين أن تكون التنظيمات المنقولة من الغرب إلى بلاد الشرق، لها المردود نفسه للتنظيمات في الغرب، وإلا فيم نفسر أن الفرد الشرقي إذا انتزع من تراثه المملوكي وعاش في الغرب، حقق تفوقا على أقرانه الأوربيين والأمريكيين؟ التفسير هو أنه انتزع تماما من تراث المماليك، وكان لديه هو شخصيا استعداد للحياة في بيئة جديدة خالية من هذا التراث. فالبذرة وحدها غير كافية، وإنما لابد من التربة الصالحة أيضا، والتربة في مصر بها حشائش عميقة الجذور من تراث الرقيق الأبيض (المماليك). 

إذن، وبعد هذا العرض السريع لأفكار الكتاب، نجد أن الثورة التي نحتاجها فعلا هي ثورة ذاتية، نتخلص فيها من الإرث المملوكي، حتى إذا ما تخلصنا من الحاكم المستبد سواء بالثورات أو بالقضاء والقدر، وفى نفس الوقت أصلحنا المادة الخام، يكون الحاكم الجديد نتاج بذرة أفضل، ويكون الشعب الجديد تربة أكثر خصوبة لانتاج مجتمع أفضل، فليست الحكاية في كل مرة حاكم فاسد، الحكاية حكاية شعب.


شمعي أسعد 
اكتوبر 2014


المقال على دوت مصر

المقال على موقع حركة مصر المدنية



Wednesday, October 08, 2014

أنت تكذب يا لينكولن

كان ابراهام لينكولن، الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية لمدة خمس سنوات فقط في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، يعمل بالمحاماة في بداية حياته، وجاءه ذات مرة أحد الأشخاص يطلب منه الدفاع عنه في إحدى القضايا، وسأله لينكولن إن كان مذنبا حقا، فأخبره الرجل بأنه بالفعل كذلك ولكنه يثق فى مهاراته وقدرته على تبرئته أمام القاضي، فرد لينكولن أنه يستطيع فعلا ذلك لكنه لن يفعل، تعجب الرجل وسأله لماذا؟ فرد لينكولن: لأنني سأكون مدركا طوال الوقت وأنا أدافع عنك أنني أكذب، وسأظل أردد بيني وبين نفسي أثناء المرافعة "أنت تكذب يا لينكولن" وقد أخطيء مرة وأقولها بصوت عالٍ.

لم أهتم بعد قراءة هذه القصة بدقتها ولكنني عشت طويلا مع مغزاها، وصرت استخدم مقولة لينكولن التي قرأتها منذ سنوات طويلة، بنفس الطريقة التي استخدم بها الأمثلة الشعبية، أرددها كما هي كلما أردت فحص النية الحقيقية في أمر ما، لا أتحدث على المستوى الشخصي، بل عن "الكذب الجمعي" والضلالات الاجتماعية التي غرق فيها مجتمعنا بشدة، فكم أكاذيب نرددها بضمير مرتاح ونعرف في قرارة أنفسنا أننا نكذب، ومع ذلك كنا نستمر في ترديدها، ونقبل ترويجها، ولم يظهر فينا بعد من يقف هاتفا مستخدما المثل الجديد: "أنت تكذب يا لينكولن".

تحدث قاسم أمين كثيرا عن "علل المجتمع المصري"، وإذا أردنا أن يصير مجتمعنا أفضل فيجب ألا نكف عن الحديث عن كل العلل التي تعطل تقدمنا، والكذب الجمعي هو أحد أهم هذه العلل، أتحدث عن الأكاذيب التي لا ندرك أننا نمارسها، وهي في نفس الوقت تعطلنا عن التقدم لأن لها مفعول "البنج"، فحين نردد باستمرار أننا أصحاب حضارة سبع آلاف سنة فنحن نعطي لأنفسنا "حقنة بنج" بهدف أن نرتاح من الإحساس بالعجز أمام التقدم الهائل حولنا، ولا يهم ماذا نقدم للبشرية الآن مادمنا قدمنا ما يجب أن نقدمه من آلاف السنين، فكيف يتطور مجتمع يظل طوال الوقت معتقدا أنه أفضل شعوب العالم، وأن مصر "أم الدنيا" دون أن تُقر "الدنيا" نفسها أن مصر أمها، وأننا شعب طيب، وأطفالنا هم أذكى أطفال العالم، فضلا عن ترديدنا المستمر لفكرة أننا مجتمع محافظ، رغم تكذيب محركات البحث التي نصول ونجول فيها بحثا عن المواقع الجنسية، وقد أخبرتنا بعض الإحصائيات أننا أكثر شعوب العالم فى ذلك، فضلا عن ظاهرة التحرش التي زادت واستفحلت حتى أصبح "المجتمع المحافظ" عاجزا أمامها.

نحن نكذب ونخدع أنفسنا في كل مرة نردد فيها أننا شعب متدين بالفطرة، ونظل نصدق ذلك حتى ونحن ندفع "رشوة" لموظف، أو نلقي القمامة بضمير مرتاح بجوار سور مدرسة مكتوب عليه "النظافة من الإيمان"، وعلى نفس السور أيضا سنقرأ "مدرستي جميلة نظيفة متطورة" بينما يدرك كل تلميذ أنها ليست كذلك فيعتاد بدوره الأكاذيب الاجتماعية، الأمر الذي يؤثر سلبا على "قيم أخلاقية" لأجيال تشكل هي أيضا مستقبل المجتمع وفق ما تعلمته منه واعتادت عليه، لتسلمها فيما بعد لأجيال لاحقة، في عملية "تدوير" منتظمة لمباديء زائفة.

والأسوأ من أن نكذب هو أن نصنع "الرموز الكاذبة"، وحينما قامت ثورة 25 يناير كان من أهم نتائجها هو سقوط كثير من الرموز التي كانت نماذج وقدوة في نظر ملايين من المصريين، لا أقصد من قامت ضدهم الثورة بل من قاموا بالثورة أنفسهم، فأحد أهم أسباب كبوة الثورة هو استغلال المدعين والمزيفين لها وتصدرهم المشهد والميدان، وأهم حسنات الثورة أيضا هو فرزها لهؤلاء تباعا، فكل يوم نرى نجما يسقط وكذبة تنكشف، ولا عيب فى ذلك سوى أنه يحدث دائما بعد كارثة، ولو كنا نملك موهبة الكشف المبكر عن الكذب وفرز الشخصيات الزائفة، لتجنبنا كثيرا من الأزمات وربما تجنبنا فشل الثورة نفسها، هذا على افتراض أننا حين قمنا بالثورة رافعين شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية"، كنا صادقين ومتسقين مع أنفسنا ونؤمن فعلا بقيمة الحرية والعدالة الاجتماعية، فقد رأيت بنفسي من ملأوا الدنيا ضجيجا عن الحقوق والحريات، وكانوا هم أنفسهم أول من فشلوا في تحمل الرأي الآخر، وتعاملوا بحدة مع المختلفين معهم باستعلاء لا يليق بمن يتحدثون خلف الشاشات عن حرية الرأي وحق الاختلاف، وكم توقعت أو تخيلت بينما هم مستغرقون في حواراتهم الإعلامية سواء عن الحقوق أو المباديء أو ادعاء النقاء الثوري، أن يخطيء أحدهم ولو مرة فيقول " أنت تكذب يا لينكولن".


شمعي أسعد
6 أكتوبر 2014

المقال على دوت مصر



Monday, September 22, 2014

أين ذهب جمهور أم كلثوم






بينما كنت أتجول بلا هدف بين قنوات التليفزيون، توقفت أمام أحد البرامج الحوارية التي تعتمد على استضافة طرفي نقيض في قضية ما، ورغم أن هذا في حد ذاته لم يعد مثيرا للاهتمام،فإن الذي أغراني بالتوقف، أن أحد طرفي النقاش شابان ممن يتبعان موضة الشعر الطويل المُضفّر، والطرف الآخر سيّدة محجّبة، حتى يكون كل طرف مضادا للآخر في الاتجاه مساويًا له في القوة، وبالطبع كان شكل هذين الشابين هو موضوع الحلقة، حيث كانت السيدة المحجبة تقوم بدور المجتمع المحافظ الذي يوبّخ هذا النوع من الشباب على هيئتهم الغريبة، وتخلّيهم عن تقاليد المجتمع، وصولا لاتهامهما بعدم الانتماءلمصر، لأنهما لا يتبعان شكلنا المتعارف عليه، وأشارت كمن لديه معلومات مؤكدة أن هناك من يتعمد الدفع بهؤلاء الشباب لتخريب المجتمع وتغريبه، بينا راح الشاب يؤكد أنه لا يتبع أحدًا، ولم تدفعه جهة ما، وكل ما فعله هو أن أعجبته صورة فقلّدها، ولم يشعر بتعارض بين هذا الشكل وانتمائه لبلده.

أثار توبيخ السيدة العنيف للشباب في ذهني، عدّة تساؤلات: ما"شكلنا" المتعارف عليه؟ هل لنا شكل واحد؟ هل لنا شكل ثابت؟

بالبحث والتأمل في "شكلنا"، وجدتني أعود لحفلات أم كلثوم وأتأمل جمهورها، باعتباره نموذجًا لما كنّا عليه ذات يوم، صحيح أن جمهور تلك الحفلات كان من الطبقة البرجوازية أو الوسطى، لكن لا مانع من أن نقارنه أيضا بنظيره في أيامنا الآن، لنتساءل أين ذهب شكلنا هذا؟ ولماذا حين بدأ التحول في الحدوث، لم يظهر من يقاوم، مثل تلك السيدة التي وبّخت الشابين؟ ألم يكن شكلنا وقتها متعارفا عليه أيضا؟ بحيث يصبح تغييره تخليا عن تقاليد المجتمع؟ هل كان هناك من يدفع بتغيير الشكل بهدف تغيير الهوية والانتماء، كما اتهمت السيدة الشابين؟ وما موقفها من الجماعات التي كانت "تدفع" و"تموّل" بهدف تغريب كل شيء في مصر؟ أين كانت التقاليد والعادات المصرية؟ وفي تأكيدها أننا مجتمع محافظ، فتحت تساؤلات أكثر بخصوص هل نحن حقا كذلك؟ بل السؤال الأوقع هل صرنا أكثر "محافظة" والتزاما من جمهور أم كلثوم السافر؟ أم أن كل شيء تدهور، لأننا بذلنا جهدا كبيرا في الاهتمام بالشكل ولم نلتفت للجوهر أو "القيمة" طوال عقود مضت ولن تعود. وفي المقابل ظللنا نردّد بلا أي مراجعة، أننا مجتمع محافظ حتى صارت واحدة من أهم الأكاذيب التي صدّقناها وغرقنا فيها، لتصبح هي المدخل الأهم لكل جرائم الوصاية على الآخر المختلف.

طعنت السيدة الشاب في انتمائه، لمجرّد أنه غيّر شكله لهيئة غريبة، قد يملّ منها، ويعود كما كان، ماذا إذن عن الفساد المستشري الذي لا يملَ صاحبه منه؟، فلا شكّ أن الكثيرين منا وقعوا ضحية موظف فاسد أو مُرتشٍ، كنا نغضب ونحزن ونتألم ونتّهم هؤلاء بالفساد، لكن لم يحدث أن اتّهمنا الموظف المُرتشي بعدم الانتماء، أي إن الفساد ليس معيارًا لقياس الانتماء في ثقافتنا، إنما تغيير "تسريحة الشعر" هو المعيار الأهم الذي لا يقبل التفاوض.

حين دعا قاسم أمين لتحرير المرأة، حصر البعض دعوته في مجرد تغيير الشكل والهيئة، حتى أن طلعت حرب نفسه هاجمه قائلا "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا"، ورغم كونه اقتصاديا عظيما تفخر به مصر، إلا أنه في هذا الأمر كان يقوم بنفس دور السيدة سالفة الذكر، كما اتهمه مصطفى كامل أيضا بنفس التهمة وربط بين أفكاره والاستعمار الإنجليزي، بينما ناصره الإمام محمد عبده وسعد زغلولوأحمد لطفي السيد، حيث كان يدعو دائما أن "تربية المرأة هي أساس كل شيء، وتؤدي لإقامة المجتمع المصري الصالح وتخرج أجيالا صالحة من البنين والبنات"، وكان يكتب عن "العلل الاجتماعية في مصر" فقد كان مهموما ومهتما بالصلاح الاجتماعي، ويسعى بكل جهد لتحرير المجتمع المصري.

ثم جاءت نبوية موسى بعده لتكون بمثابة التطبيق العملي لأفكاره، فكانت إحدى رائدات التعليم والعمل الاجتماعي، واهتمت بنشر تعليم الفتيات، وأسست مدرسة ابتدائية حرة للبنات في الإسكندرية تولت إدارتها، وكان يدعمها أيضا أحمد لطفي السيد رائد التنوير في عصره.

وبعدهما تأتي درية شفيق، التي ينسب لها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في دستور 1956، وكأنهم سلسلة متتابعة متناسقة يكملون بعضهم بعضا، حيث يحرر قاسم أمين المرأة لتعلمها نبوية موسى ثم تعطيها درية شفيق حق الانتخاب والترشح.

أين نحن الآن من هذا التطور والتكامل والتفاعل بين أجيال كانت مهتمة بجوهر المجتمع، ومهمومة بعلله، انتجت بكل تفاعلاتها "جمهور أم كلثوم"، من أجيال لاحقة تفاعلت وانتجت مجتمعا لا داعي لوصفه فنحن جميعا نعيشه.

شمعي أسعد
سبتمبر 2014

 المقال على دوت مصر

Sunday, September 14, 2014

اختبار حمل داعش

تأملتُ بكثير من الفضول ملامح الشاب إسلام يكن، خريج "الليسيه" سابقاً والمجاهد في صفوف داعش حالياً، وتعجبت كما تعجب الجميع من غياب أية علامة تقول إننا أمام إرهابي محتمل، وكنت قد كتبت في2010 على خلفية أحداث نجع حمادي التي وقعت ليلة عيد الميلاد، مقالاً بعنوان "عزيزي الإرهابي القديم.. افتقدك"، تحدثت فيه عن أن الإرهابي الذي ملأ فترة الثمانينات والتسعينات ضجيجا ودماءً، لم يعد يظهر بصورته التقليدية التي كنا نراه بها، حين كان يرتدي جلبابا أبيض قصيرا ولحية طويلة ويده تحمل سلاحا آليا، بل أصبح الإرهابي الآن شخصا عادياً، قد يكون جارك أو زميلك القديم في المدرسة، أو الشخص الجالس بجوارك في القطار.

وحين ذهبت لعمل تحقيق صحفي لمجلة روز اليوسف عن أحداث تهجير الأقباط في العامرية بالإسكندرية، كان أول ما فعلته هناك هو تأمل ملامح كل من قابلتهم وكل من رأيتهم في شوارع القرية، وبالتأكيد منهم من شارك في حرق المنازل، كنت أبحث عن أية ملامح إجرامية تضع ما حدث في سياق مقبول كسلوك إجرامي، ولكن خاب ظني فلم أجد سوى أشخاص عاديين وملامح عادية، تحولت وقت الأزمة لشخصيات إرهابية، ثم عادت مرة أخرى لحالتها العادية لتمارس حياتها الطبيعية في التعامل اليومي العادي.


وضع عالم الجريمة الإيطالي الشهير "تشيزري لومبروزو" نظريته الشهيرة"الرجل المجرم"، وهو بالمناسبة أول من استخدم جهاز كشف الكذب عام‏ 1895، الذي تقوم فكرته على تسجيل التغيرات التي تطرأ على أجهزة الجسم إذا ما عمد الإنسان إلى الكذب، مثل التغيير في سرعة نبضات القلب واختلاف سرعة التنفس وضغط الدم. يذهب لومبروزو في نظريته إلى أن المجرم إنسان شاذ من الناحيتين العضوية والنفسية، فمن الناحية العضوية يقرر لومبروزو أن المجرم يتميز بصفات وملامح جسمانية تختلف عن الشخص الطبيعي، مثل عدم انتظام شكل الجمجمة، وضخامة في الفكين، وبروز في عظم الخدين، وشذوذ في تركيب الأسنان، وفرطحة أو اعوجاج في الأنف، وغزارة في الشعر، مع عدة صفات أخرى. أما من الناحية النفسية فقد لاحظ لومبروزو ضعف إحساس المجرمين بالألم، كما لاحظ تميزهم بالفظاظة وغلظة القلب وقلة أو انعدام الشعور بالخجل، مفسرا بذلك إقدامهم على إتيان جرائم الدم.


وبالطبع لاقت النظرية وقتها هجوماً عنيفاً، وكان يستجيب للنقد بتطوير نظريته، حتى أصدر منها خمس نسخ في عدة مجلدات، وظلت محل هجوم وإن اعترف النقاد ببعض المزايا، ولكن إذا طبقنا نظرية "الرجل المجرم" على إسلام يكن، وغيره من كثيرين انضموا لصفوف داعش، لن نراها صحيحة أبداً وربما تصح في الناحية النفسية، فمن الناحية العضوية كان"يكن" شاباً عادياً يحمل نفس الملامح البسيطة للمصريين، ولا يحمل صفات "الرجل المجرم"، فلا شكل جمجمته غير منتظم ولا أطرافه أو أصابعه بها طول ملحوظ، ولا توجد ضخامة في فكيه، ولا "حواجب غزيرة تميل للالتقاء فوق الأنف"، هو مجرد شاب عادي، فما الذي جعله إرهابيا، وأين يكمن جين التحول؟ وهل بيننا كثيرون يحملون الفكر "الداعشي"؟ وكيف تعرف إن كنت أنت شخصيا منهم أم لا؟ وإن كانت نظريات لومبروزو لا تصلح للكشف عن الـ"داعش" الذي بداخلك، فهل هناك ما يمكن أن نسميه "اختبار حمل داعش"؟ 


كلنا يعرف أن مجتمعنا به الكثير من الأفكار والسلوكيات السلبية التي تحمل البذور الداعشية، مثل قمع المرأة، العداء المستتر والمعلن أحيانا بين الطبقات الغنية والفقيرة، ثقافة الكراهية تجاه الآخر، "ثقافة الزحام" التي ينتج عنها الكثير من جرائم العنف، وبشكل عام "السلوك العنيف" في كثير من الممارسات اليومية، وفي السنوات القليلة بعد ثورة 25 يناير، وفي ظل حالة استقطاب وقع فيها الشعب المصري بأكمله، ظهرت كثير من الأفكار الداعشية بيننا جميعا، فكلنا كنا نريد نفي كل منتمي للمعسكر الآخر، ولا نتعاطف معه إن قُتل أو سُحل أو تم تعذيبه، وكنا نُسكت ضمائرنا بعبارات مثل "إيه اللي وداه هناك؟"، وحتى قبل الثورة كان بيننا من ينادون بحقوق الإنسان وحقوق المرأة ولكنهم إن تعرضوا لسرقة فلا مانع من سحل الخادمة في قسم الشرطة حتى تعترف!.


أين ترقد الخلايا الإرهابية النائمة داخل كل شخص فينا؟، وكيف تتأكد إن كنت تحمل هذا الفيروس الداعشي أم لا؟ هو اختبار "حمل" بسيط، فقط راجع كل ما آمنت به من قناعات، وما مارسته من سلوك، واستحضر صورة إسلام يكن أيام البراءة ومدارس الليسيه، ثم قارنها بصورته حاملا رؤوس ضحاياه في سوريا، والعب اللعبة القديمة في استخراج أوجه الشبه ليس بين الصورتين بل بينك وبينه.


شمعي أسعد
سبتمبر 2014



المقال على دوت مصر