Monday, March 29, 2021

إيليا سمير

 


كبرنا معا، نضجنا معا، تشكلت كل خلايا وعينا معا، ولفرط محبتك لم تكن مجرد صديقا بل روحا ثانية لي، ثم مع مر السنين حدث التراكم، هل تعرف ماهو التراكم يا إيليا؟ هو أن تتراكم معرفتنا ببعض شيئا فشيئا، فتصبح أكثر الناس فهما لي، وتصبح الفضفضة معك علاجا نفسيا، ويصبح البوح معك مثل سر الاعتراف المقدس، حتى نصل إلى أعلى درجات الصداقة حين لا نحتاج إلى "الكلام" لنفهم بعضنا بعضا، وكنت كلما كتبت شيئا تلهفت لمعرفة رأيك، فكان هو جواز المرور لما أكتب، حتى كتابي "حارة النصارى" ما كان ليحقق ما حققه من نجاح لولا اختيارك أنت للاسم الذي لاقى قبولا واسعا ربما أكثر من محتوى الكتاب نفسه، فأنت الشخص الذي دائما يضيف شيئا، ودائما يعطي ويمنح، ودائما مجسدا لكلمات الإنحيل: "مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ"، ومن هم مثلك يا إيليا، أقصد هؤلاء الذين يأسرون قلوبنا ويعتقلون أرواحنا، لا بدائل لهم، فإن غابوا صارت الروح مطفأة، وإن رحلوا صارت كل السنين عجافا.

خاطب المسيح الجموع في الموعظة على الجبل قائلا: "وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْن"، ثم جئت أنت لتقدم التطبيق العملي لهذه الآية، فقد عشت بيننا إنجيلا مُعاشا، تجول كالمسيح تصنع خيرا، لم تفرق في سعيك لخدمة الآخرين بين أحد، لا فرق دين ولا فرق سن ولا فرق مسافات، يعرف جميع من عرفك هذا، بل حتى كورونا حين سخرتك ميلا ذهبت معها اثنين بل أكثر.

خذلنا رحيلك المفاجئ وأربك حياتنا، غامت السماء يومها فكان كيوم صلب المسيح، شعر الجميع أن الحزن يصل الأرض بالسماء، وأيضا خذلتنا الأحداث العامة في الأيام التالية فلم تساعدنا على التعافي، فقد تعطلت السفن فى قناة السويس، وتصادم قطاران في سوهاج، وانهارت عمارة سكنية في القاهرة، واشتعل حريق في عدة محلات بالزقازيق، وفي خط مواز استمرت كورونا فى حصد المزيد من الأرواح، وقد أيقن الجميع أنها لا تمزح، بل عازمة على تنفيذ ما أتت من أجله، خذلتنا الحضارة وعدنا إلى زمن الأويئة، خذلنا العلم والطب، وأيضا خذلنا الله.

أخبرناك يا الله أننا نتمسك بوجود إيليا بيننا، خاطبناك في كل الأماكن التي نؤمن أنك تسكنها، في الكنائس، في الأديرة، في المساجد، في كل بيت وكل مخدع، توسلنا إليك حين انتهت حلول الأرض وبقيت حلول السماء، لكن "يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟".

نطمئن أنفسنا أنك صرت الآن قديسا وشفيعا، فأعمالك صالحة، وكل الخير الذي كنت تصنعه في الخفاء يؤهلك لذلك، وخدمة المرضى التي كانت سبب إصابتك تجعلك شهيد الواجب وشهيد المحبة، ولكن يا إيليا أنا لم أكن احتاجك قديسا بل صديقا، فالقديس لن يخرج معي فى نزهة، ولن نضحك معا، ولن نحكي معا، ولن نغني أحيانا ونرنم أحيانا، ولن نتبادل الكتب والكتابات وآرائنا السياسية، وحده الصديق يفعل.

تقول القوانين الفيزيائية إن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ولكن يمكن تحويلها من صورة لأخرى، وبالمثل في قوانين الحب؛ الأحباء لا يفنون ولكن يأخذون صورا أخرى في قلوبنا، وقد صرت أنت الآن الحبيب في كل قصائد وأغانى الحب، فحين أقرأ لأحمد شوقي "بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واش يفسده" سأتذكرك وأضيف: "ولا الموت ينهيه"، وحين أسمع شادية تغني "فين الحواديت وفين.. سهراتنا تحت الضي" سأفتقد كل حكاياتنا، وحين تغنى وردة "بودعك" سأرفع عيني إلى السماء وألوح لك بيدي، وسأعاتبك مع عبدالوهاب: "لما انت ناوي تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول"، وسأرفض هذا الفراق مع غادة رجب: "ولا يبقى ما بينا فراق على طول.. على طول المدى".

Saturday, March 20, 2021

دكتور محمد رفيق خليل



في كل مرة يردمون جزءا من بحر الإسكندرية لتحويله إلى مجمع كافيهات أدرك أننا خسرنا شيئا صعب تعويضه.. وهو نفس ما أشعر به كلما هدموا قصرا لتحويله إلى برج سكني.. أو شاطئا له طابعه الخاص ليصبح مشروع منتجع سياحي.. أشعر كل مرة أن الإسكندرية تفقد بعضا من ملامحها.. وجزءا من روحها.. ويتجلى هذا الشعور إذا طالت الخسارة شخصا عزيزا على قلب الإسكندرية.. وأحد مفكريها.. وأهم رموزها.. واليوم.. اليوم تحديدا حدثت أكبر الخسائر.. برحيل الدكتور رفيق خليل.. الطبيب والجراح.. الشاعر والفنان.. المفكر والفيلسوف.. أستاذ الجراحة بكلية الطب ورئيس اتيليه الإسكندرية.. كان نقيبا سابقا للأطباء.. ورئيسا سابقا لقسم الجراحة.. وصديقا دائما لكل من عرفه.
كلنا نحب الدكتور مجدي يعقوب ليس فقط لمهارته فى علاج القلوب.. لكن لأنه هو نفسه يحمل قلبا جميلا.. ونحن فى الإسكندرية كان لدينا مجدي يعقوب خاصتنا.. هو الدكتور رفيق خليل.. الذي كان أيضا يحمل قلبا جميلا كقلب طفل.. ووجها باسما كمحب يلقى حبيبا غائبا.. كان منسقا رائعا في ندواته الثقافية.. رقيقا في حواراته.. صديقا في عيادته.. ووحشا كاسرا في غرفة العمليات.. وهو أب عطوف لمريضه بمجرد أن يفرغ من إحدى عملياته.
هذا الطبيب الماهر.. أستاذ الجراحة بكلية الطب كانت قيمة الكشف في عيادته ٥٠ جنيها فقط.. وحين سالته كيف يكون هذا؟ اجابنى أن حتى ال٥٠ جنيها هناك من لا يستطيع دفعها وحين أدرك ذلك احاول ردها دون أن اجرح كرامة المريض.. وقال لي أيضا آن هذا المريض إذا احتاج إجراء جراحة أطلب منه نصف قيمة التكلفة وأجعله يعتقد أن هذا هو كل التكلفة.. مضحيا بأتعابي.. وما يدفعه يكون فقط تكلفة المستشفى والتخدير والمساعدين.. ولا اجعله يعرف انني لم آخذ شيئا.. كان طبيبا للغلابة أيضا.. وقال لي إن المريض يجب أن يشعر أن الطبيب صديقه.
عيادة الدكتور رفيق لم تكن مجرد عيادة.. فهي مكتبة ثقافية.. بها كتب الطب وكتب الثقافة.. بها لوحات فنية مهداة من فنانين.. بها قصائد معلقة كتبت فى حب دكتور رفيق.. وفي عيادته تسمع أثناء جلوسك موسيقى هادئة قد لا تحتاج بعدها إلى طبيب.
دكتور رفيق كان محبا للفنون وكان من مؤسسي معهد كونسفتوار الإسكندرية الأوائل.. وأول من أدخل مناهج تعليم الموسيقى الدولية وتحديدا مناهج وامتحانات رويال سكول الدولية إلى مصر.. وهذا أقل القليل فهناك ماهو أكثر ويستطيع أن يخبرنا به من كان أكثر قربا منه.
قبل معرفتي به منذ أكتر من خمسة عشر عاما.. وأثناء حضوري أمسية شعرية كان يديرها في متحف الفنون بمكتبة البلدية.. وكنت قد أتيت الندوة بعد بدايتها.. فوجئت به بعد عدة فقرات لبعض الشعراء يقدمني كشاعر لالقاء قصيدة.. وفوجئت بهذا لأنني لم اتوقع أن يتذكرني حيث كنت قد ألقيت قصيدة فى ندوة سابقة كان يديرها الشاعر الجميل الراحل صبري ابوعلم.. وفقط لمحني وقت دخولي.. كان موقفا بسيطا كاشفا لشخص استثنائي يعرف كيف يشجع حتى الهواة.
لم أرفق مع مكتوبي هذا صورة لي مع دكتور رفيق.. فقد اكتشفت أنني لم اهتم أبدا في كل مرة رأيته أن آخذ صورة معه.. فوجوده كان يبعث حالة سكينة وسلام.. يدرك ذلك كل من عرفه.. وهي أشياء لا يمكن تصويرها وحالة لا تستطيع رصدها بالكاميرات.
حين عرفت بالرحيل.. لم أتقبل الخبر ولا زلت.. وظللت أردد كلمات إحدى الأغنيات التي تقول.. "حظنا صعب وعنيد".. واخيرا.. أهداني دكتور رفيق ذات مرة رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" لأديب الإسكندرية الكبير إبراهيم عبدالمجيد.. الذي هو بدوره أصفه دائما أنه نجيب محفوظ الإسكندرية.. وتحكي الرواية عما تعرضت له الإسكندرية من قصف وتدمير جراء معارك العلمين في الحرب العالمية الثانية.. واستطبع الآن أن أخبر حبيب الإسكندرية الراحل دكتور رفيق.. أن الإسكندرية ستنام حتى إشعار آخر.. فوجودك كان أحد أسباب اليقظة.. وسنحتاج دورة حضارية كاملة حتى تمنحنا الأقدار شخصا آخر مثلك.