Sunday, January 31, 2021

فيلم الأيدي الناعمة

 

أراد فيلم الأيدي الناعمة أن يقدم صورة نموذجية لنتائج ثورة يولو وما أحدثته من ثورة اجتماعية أطاحت بعهد قديم يمثله البرنس العاطل بالوراثة لصالح عهد جديد يمجد العمل والأيدي العاملة، ورغم ذلك لم يخلو الفيلم من رسائل سلبية جاءت في سياق الأحداث بشكل عفوي، لا أظنها متعمدة وإن كانت تحمل بالصدفة ما يمكن أن نسميه تنبؤات بما آلت إليه أحوال المجتمع في وقتنا الحالي.

في أحد المشاهد نرى واحدا من الخدم العاملين بسرايا البرنس العاطل، يقف أمام صورة والد البرنس ويصنع لنفسه شاربا يشبه شاربه، وحين يلومه زميله خوفا من غضب البرنس يقول له: "محدش أحسن من حد"، وهي حالة حقد طبقي واضحة لم تعالجها ثورة يوليو بل قدمت فقط لمن يحملون نفوسا غير سوية فرصة للتشفي وربما الانتقام، ليصبحون فيما بعد هم الأغنياء الجدد فيمارسون التعالي بدورهم على من هم دونهم.

ثم يأتي المهندس المكافح الذي تزوج ابنة البرنس بدون رغبة أبيها الذي بدوره يرفض مصاهرة الرعاع حسب قوله، وهذا المهندس بدأ حياته بمشروع ورشة صغيرة، ثم صارت الورشة مصنعا كبيرا وأصبح ثريا يدفع للبرنس فواتيره سرا بل ويعرض عليه إعالته، مقدما نموذج الفتى الأصيل الطيب الخدوم، وبرغم هذه الصورة الإيجابية إلا أن الرسالة السلبية جاءت حين خاطب والد زوجته قائلا: "وانت فوق احتقرت الورشة دلوقتى الورشة هي اللى فوق لكن قلبها طيب ومدالك إيدها فى أى وقت"، هذا التمجيد لل"ورشة" مقابل "السرايا" هو نفسه ما نراه الآن في نواحي مصر كلها، فالورشة صارت هي القاعدة ولها المكانة، وكل "سرايا" هدمت أو تحولت لمبنى حكومي، بعد سنوات من الإلحاح في تفعيل ثقافة احتقار الجمال الذي صار مرتبطا برفاهية مذمومة، وتسفيه "الأصول" حتى لو كان تراثا مجسدا في قصر جميل.

كما تعمد الفيلم التقليل من قيمة العلم النظري، فقدم لنا حامل الدكتوراه عاطلا لأنه تخصص في جزئية دقيقة في اللغة فبات صاحب علم لا ينفع صاحبه، مقابل العلم التطبيقي ممثلا في المهندس الناجح، كما تشير دلالة كلمة "دكتوراه في حتى" إلى أن محبي العلم هم مجرد متحذلقون "بتوع كلام" يضيعون عمرهم في لاشيء، حتى أن السخرية من ال"دكتوراه في حتى" كانت هي الشىء الوحيد الذي اتفق عليه البرنس العاطل وزوج السيدة الجاهل الذي استأجر السرايا.

وفي مشهد تأجير السرايا نفسه نجده الأكثر عبثية والأكثر تمريرا للرسائل السلبية، فالإعلان يقدم عرضا لتأجير السرايا مجانا لمن يعول أهلها ويطعمهم، ولا يهم إن كان من ثقافة مغايرة لا تقدر ثقافة المكان، فدمر كل موروثاتها وتاريخها وملأها بالقطط، فضلا عن فرض أفكاره الرجعية حين قالت السيدة المستأجرة إنها من أنصار فصل الذكور عن الإناث، رغم كونها هي نفسها لا تفارق البرنس وكانت دائمة التحرش به، في إشارة أو تنبؤ لازدواجية المعايير التي يعانى منها المجتمع اليوم.

أما الطامة الكبرى فكانت في مشهد هو الأغرب على الإطلاق، فصاحب الدكتوراه الذي وصل لأعلى الدرجات العلمية حين قابل الفتاة الجميلة الشابة ابنة البرنس والتي تمارس عملها كرسامة وفنانة تشكيلية، أي حين التقى العلم والفن وأكلا معا "آيس كريم" ألقوا بعلبة الآيس كريم على الأرض بكل بساطة، في تصالح شديد مع فكرة إلقاء القمامة بهذه الطريقة في حديقة عامة، ولا أعلم هل هي إشارة أم تنبؤ بأجيال قادمة ستكون أكثر تصالحا مع هذا السلوك.

بشرنا الفيلم بأشياء جميلة وتنبأ لنا بعكسها في نفس الوقت، بشرنا أن العهد الجديد بعد الثورة سيحمل مشاعر جديدة، حتى الحب سنتهجى حروفه من جديد (با فتحة با) كأننا نغتسل من كل ما يمت للعهد القديم بصلة، ثم تنبأ لنا بأنه لا فرق بين الجديد والقديم وأننا فقط ندور في "دوامة" كما غنت صباح في نفس الفيلم.

 

 

 

فوضى الهدم والبناء في الإسكندرية بعد ثورة يناير

 أحد التحليلات الغائبة عن ثورة يناير هو تحليل أثرها على العمارة والبناء.. إسكندرية مثالا.. من أول فوضى الهدم والبناء حتى تدمير الشواطىء.. مرورا بتسارع الامتداد الرأسي اللي أثر سلبا على البنية التحتية وعلى الكثافة المرورية اللى فوق طاقة الشوارع.. بديلا عن الاتجاه للتوسع الأفقي رغم وجود ظهير فضاء غير مستغل.. وفوق كل ده تدخل الدولة سلبا بكونها طرف منافس بدل ما يكون طرف منظم فاستولت بدورها على ما تبقى من الشواطىء وحولته إلى خلجان صغيرة مدججة بالكافيهات.. وغيرت الشكل التراثي لأهم وأجمل شواطىء الإسكندرية زي شاطىء عايدة في خطة يسمونها تطوير تهدف إلى تحويله مع كامل ساحل المنتزه إلى منتجع سياحي لن يعوض مهما كان جميلا روح المكان وطعمه وتاريخه.. كما أثرت الارتفاعات الراسية على طبيعة شوارع كثيرة فغابت عنها الشمس حتى فى عز الضهر.. كما فقدت الإسكندرية عدد كبير من الفيلات الجميلة فتغيرت معالم مناطق وفقدت طابعها المميز فصارت رشدي كالعصافرة وفلمنج مجرد امتداد لباكوس وتحولت الإسكندرية إلى كتل صماء متراصة من الأبنية المشوهة غير المتناسقة

Sabrin Fakhry, Shaymaa El-Sherif and 53 others
13 Comments
4 Shares
Like
Comment
Share

Wednesday, January 13, 2021

بعد اشتباك فكري مع الوثنية... كيف تحولت الإسكندرية إلى مركز للفكر المسيحي؟

 لم تستطع عبادة الإمبراطور أو الآلهة القديمة، مثل الآلهة اليونانية أو الرومانية، أن تملأ الإحساس بالفراغ الروحي لرعايا الإمبراطورية الرومانية لاتسامها بالتطرف والجمود، ولم تستطع أن تُقدم حلولاً لمشاكل الناس الحاضرة أو المستقبلية، أو تُقدّم لهم المعونة في أوقات الشدة.

هكذا، وبمرور الوقت، فقدت الآلهة القديمة ما كان لها من احترام وتبجيل في عيون المتعبدين، واستمر الفراغ الروحي لدى رعايا الإمبراطورية، لا سيما بين المثقفين منهم وأصحاب الفكر المستنير الذين اهتموا بالمذاهب الفلسفية.

وسط هذا الفراغ، ظهرت المسيحية لتتفوق على ما عداها من عقائد وطقوس، وتتقدم نحو آفاق جديدة لتملأ حياة شعوب الإمبراطورية الرومانية. حصل ذلك في عهد الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر، وكان من أخطر أحداث التاريخ التي غيّرت مسار الأحداث والحياة بكافة مظاهرها، وسط اليهود من الطبقات الدنيا في المجتمع، وفي أنحاء مختلفة ومدن متعددة من القدس والجليل ومن سائر أنحاء فلسطين، وبعضهم كان من مصر ومن ليبيا والقيروان، ومنهم عرب من الجزيرة العربية. 

ارتبط تاريخ المسيحية في المرحلة الأولى بشخصيات ثلاث، لعبت دوراً كبيراً في تقدمها وانتشارها وإرساء أسسها ولاهوتها. وهؤلاء هم بولس وبطرس ومرقس.

الشخصيات الثلاث

وُلد بولس في طرسوس في كيليكية الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم) بين السنة الخامسة والسنة العاشرة بعد الميلاد، ودرس الشريعة اليهودية والناموس، ونال قسطاً من الفلسفة عن طريق التحصيل الشخصي، لأن والده كان قد أبعده عن المدارس اليونانية.

رحل في صباه إلى بيت المقدس طلباً للعلوم الدينية، فتعصّب كثيراً لليهودية، وتعقب من اعتنق المسيحية حتى اعتنقها هو نفسه أثناء ذهابه عام 31 للميلاد إلى دمشق ليتصدى للمسيحية ويوقف انتشارها بين اليهود.

بدأ بولس التبشير بالمسيحية بين اليهود في دمشق، ثم ذهب إلى أنطاكية حيث انتشرت المسيحية بين أهلها انتشاراً واسعاً، فقضى فيها سنوات حتى اختاره كبير المسيحيين فيها للتبشير في الأقاليم المجاورة.

ولهذه الغاية، قام برحلات متعددة، بين عامي 45 و58 للميلاد، عاونه فيها مرقس ورجال آخرين. وفي عام 58، ثار عليه اليهود في هيكل سليمان، وسيق إلى السجن بأمر الحاكم الروماني، حيث قضى نحو عامين، ثم أُرسل إلى روما لمحاكمته أمام نیرون، ويُرجَّح أنه أعدم عام 64 مع بطرس وغيره من ضحايا الامبراطور الروماني.

عُرف بولس بأنه استطاع أن يُحوّل الكنيسة البادئة إلى هيئة منظمة ورسالة عامة، ونجح في أن يُرسي دعائم اللاهوت المسيحي وأسس الكنيسة العالمية، كما نجح في التبشير بالمسيحية حتى انتشرت في سائر أنحاء الشرق، ثم امتدت إلى إيطاليا وأوروبا.

أما ثاني الشخصيات المسيحية الهامة فهو بطرس الذي كان من تلاميذ المسيح. بشّر بالمسيحية في فلسطين بين اليهود، وتابع رسالته في مدينة يافا، ثم شرع في التبشير لكل العالم حتى قُبض عليه وسُجن عام 41 للميلاد. وعندما خرج توجه إلى أنطاكية عام 45 فأقام فيها ثماني سنوات، ثم سافر إلى روما في العام نفسه، ليُؤسس فيها الكنيسة المسيحية قبل أن يجري إعدامه مع بولس وغيره على يد نيرون. 

ثالث الشخصيات المسيحية الهامة كان مرقس الإنجيلي الذي أسس كنيسة الإسكندرية بعد حياة حافلة في معاونة بولس في التبشير، وسافر إلى روما أيضاً لكنه عاد مباشرة إلى الإسكندرية للتبشير فيها بين اليهود، كما غدا أول أسقف مسيحي في الإسكندرية، وكان أول من بشّر بالإنجيل في مصر وعلى يديه اعتنق أول يهودي المسيحية في مصر.

وفي الإسكندرية، لقى مرقس حتفه عام 62، أو عام 68 وفق بعض الروايات، ونقل أهل البندقية رفاته إلى مدينتهم في القرن التاسع للميلاد.

دخول المسيحية إلى مصر

هيأت التجارة الواسعة لمصر وقربها من فلسطين فرصة سهلة للديانة الجديدة من أجل النفاذ إليها، فبدأ بعض أهل مصر اعتناق المسيحية، ثم بدأت تنتشر في سائر أنحاء البلاد، حيث عُثر على أربع برديات قديمة في مصر الوسطى تتعلق بالعقيدة المسيحية وترجع إلى منتصف القرن الثاني الميلادي، ما يؤكد وصول المسيحية إلى تلك المناطق في تلك الفترة المتقدمة، ثم انتشارها في الوجه القبلي أواخر القرن الثاني الميلادي.

بدأ ظهور المسيحية في مصر التي كانت إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الأول ميلادي، ووجد الدين الجديد هناك حقلاً خصباً نتيجة عدد من العوامل. 

من أهم هذه العوامل، تشابه الفكر الديني المصري القديم مع المسيحية في بعض الأفكار مثل الوحدانية، وهي أساس المسيحية ولم تكن غريبة على المصريين فقد كانوا أول الشعوب التي آمنت بالوحدانية منذ عهد أخناتون (1383-1365 ق.م)، فضلاً عن إيمانهم بالحياة بعد الموت والحساب والعقاب في الحياة الأخرى.

الفكرة الثاني هي التثليث، وأشهر ثالوث عند قدماء المصريين كان إيزيس وأوزيريس وحورس، لذلك حين نادت المسيحية بفكرة التثليث لم يكن ذلك غريباً على ذهنية المصريين.

الفكرة الثالثة كانت الصليب، وصليب المسيحية يرمز للحياة يُقابله "عنخ" مفتاح الحياة عند قدماء المصريين.

ما شاع من قدرة المسيحيين على دفع الشياطين وشفاء المرضى وإحياء الموتى جذب كذلك انتباه المصريين للعقيدة الجديدة، وهيأت أذهانهم لاعتناق المسيحية، فضلاً عن نظرة المصريين للعقيدة الجديدة باعتبارها فرصة للتعبير عن معارضتهم للسلطات الرومانية بعد أن فقدت مصر استقلالها، وغدت ولاية تابعة لروما ثم لبيزنطة.

ما ساعد كذلك على دخول المسيحية إلى مصر، وتحديداً عن طريق الإسكندرية، هو أن الأخيرة في تلك الفترة كانت تُعتبر من أعظم موانئ العالم ومدنها، وكانت منارة ثقافية بسبب مدرستها الشهيرة، ومركزاً للعلم والفلسفة بسبب مكتبتها التي كانت تحوي مئات الألوف من الكتب والمخطوطات النفيسة.

في الإسكندرية، شقّ القديس مرقس طريقه بسهولة للتبشير بالمسيحية، فهو ابن المنطقة نفسها، إذ وُلد من أبوين يهوديين في مدينة القيروان، وهي إحدى المدن الخمس الغربية في ليبيا.

وكان مرقس منذ ولادته ينعم بما كان لأسرته من ثروة كبيرة وأراضٍ زراعية شاسعة، ولذلك تمكن أبواه من أن يُهيئا له أفضل سبل التعليم والثقافة، فأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، كما أتقن اللغة العبرية وتعمّق في دراسة كتب التوراة والناموس اليهودي، غير أن بعض قبائل البربر هجمت على أملاك أسرة مرقس في القيروان، فنزحت إلى فلسطين. 

الوحدانية، التثليث، الصليب، ما شاع من قدرة المسيحيين على إحياء الموتى، معارضة السلطات الرومانية بعد أن فقدت مصر استقلالها... عوامل جذبت انتباه المصريين إلى المسيحية، فكيف دخل الدين الجديد إلى مصر ولماذا تحولت الإسكندرية إلى مركز له؟

وعندما جاء مرقس ليكرز بالمسيح في مصر، عَبَر على بلاد مصرية كثيرة عامرة بالسكان، لكنه فضّل الإسكندرية العاصمة ليبدأ منها بشارته، وكانت صرخة أنيانوس - أول من بشّره مرقس بالمسيحية - "يا الله الواحد" واسطة لكرازة لكل المدينة عن الإله الواحد.

ثم انتشرت المسيحية في ربوع مصر، وكان إقليم مصر في القرن الأول ميلادي ينتهي حيث يبدأ إقليم "قمرين" الذي يقع في ليبيا الآن، حيث المدن الخمس الغربية الواقعة شمالي ليبيا، وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية متصلاً، ولذلك بعد أن صارت الخمس مدن ضمن الحدود الليبية أصبح لقب البابا هو بابا الإسكندرية والخمس مدن الغربية.

المدن الخمس الغربية

الأولى هي القيروان، وهي أول وأقدم هذه المدن جميعاً، أنشأها الإغريق عام 631 قبل الميلاد في الجبل الأخضر بعيدة عن الساحل، لتكون في مأمن من خطر قراصنة البحار، وهي غير القيروان الموجودة في تونس وينطق اسمها أيضاً قورنية وقرنية وقريني، ولعل منها سمعان القيرواني الذي "حمل صليب المسيح" (مر 15: 21)، وهى تُسمى حالياً الشحات أو عين شاهات.

الثانية هي برنيق، وتدعى أيضاً برنيقة أو برنيقة القرينية، واسمها القديم هسبريس أو هسبريديس، وفي عهد البطالمة بدّلوا اسمها إلى برنيق (وهو اسم زوجة بطلميوس الأول: برنيكي)، وتعرف حالياً باسم بني غازي.

الثالثة هي برقة (باركه)، وهي ثاني أو ثالث مدينة في القدم، وتقع في الداخل في الجبل الأخضر، وتسمى حالياً بالمرج، ولها ميناء قديمة تدعى بطولومايس.

الرابعة هي طوشير، وتدعى حالياً توكره أو طركرا، وقد أنشأها الإغريق على الساحل عام 510 قبل الميلاد، ثم دعيت باسم أرسينوى على اسم أم بطليموس الثالث.

أما الخامسة فهي أبولوني، وقد بُنيت على الساحل ربما لتكون ميناء لمدينة سيرين أو القيروان، وهي حالياً مرفأ أو مرسى سوسه، وقد نشأ في ما بعد ميناء آخر للقيروان هو درنة.

الحالة الفكرية وقت ظهور المسيحية

وصلت الإسكندرية إلى درجة عظيمة من الأهمية، حتى أصبحت تُعتبر بحق العاصمة الثقافية للعالم وقلب العالم الهليني النابض، وكانت مكتبتها تزخر بمن يفد إليها من علماء وفلاسفة وطلاب معرفة من كل العالم، يجلبون معهم علوم بلادهم وثقافاتها.

وازدحمت المدينة بأناس من شتى الأجناس والأديان والثقافات، وكان فيها المصريون بديانتهم المعروفة ومعابدهم المصرية، وإلى جانبهم عاش اليونان بلغتهم العالمية وفلسفاتهم، والرومان بأنظمتهم وقوانينهم وثقافتهم، وكان هناك اليهود الذين يمثلون عنصراً هاماً في المدينة ولهم فيها حي خاص ومعهم أجناس أخرى شرقية في المدينة لها أيضاً عباداتها وثقافاتها.

التقى كل هؤلاء في شوارع المدينة وأسواقها، وقامت مناقشات دينية وعقلية حامية، ودارت مناظرات بين العلماء في مكتبتها، فخلق هذا التنوع امتزاجاً فكرياً تولدت عنه أفكار وفلسفات ومذاهب جديدة، أسست لمدرسة الإسكندرية الشهيرة التي ساعدت المدينة لتحل مكان أثينا كمركز أدبي للعالم اليوناني.

الصراع بين المسيحية والفلسفة الوثنية

عندما ظهرت المسيحية في الإسكندرية كان عليها أن تتصارع مع كل الأديان والفلسفات والمذاهب، الوثنية منها واليهودية.

هكذا حدثت مفارقة عجيبة في المدينة، فاتخذ كل من الفريقين أسلحة الآخر ليحاربه بها، إذ درس المسيحيون الفلسفة للرد على الفلاسفة، ودرس الوثنيون الكتاب المقدس لمهاجمة المسيحيين.

واتهم الوثنيون المسيحيين لدى الحكام باتهامات كثيرة في تعاليمهم وعبادتهم وأخلاقهم، وأدى هذا الصراع إلى ظهور فئة من العلماء دافعوا عن المسيحية مثل أثيناغورس، أحد أساتذة المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية.

بعدما انتشرت المسيحية انتشاراً سريعاً وازداد عدد المنضمين إليها، أصبح من الضروري أن يوضع التعليم المسيحي على أسس منهجية منظمة لإعطاء هؤلاء المتحولين إلى المسيحية ما يؤهلهم للمعمودية والانضمام إلى الكنيسة، وكذلك لتثقيف المؤمنين أنفسهم بمبادیء دینهم وتعاليمه، وتزويد الراغبين منهم بما يريدونه من الدراسات والتعمق في فهم الفلسفة واللاهوت.

وهكذا تأسست مدرسة الاسكندرية للتعليم المسيحي، ولكن لم تكن هذه الأسباب الإيجابية فقط هي الداعية لإنشائها، إنما كان هناك سبب آخر لا يقل أهمية، ذلك أن العالم الوثني كان يقف للمسيحية بالمرصاد، يحاول بكل قواه وبكافة الطرق العلمية والعقلية والنقدية أن يقضي على هذه الديانة الجديدة، وعليه واجهت الكنيسة هجمات فكرية شديدة من فلاسفة الوثنية ورجال السياسة فيها، وكان لا بد أن توجد مدرسة عليا تزود الكنيسة بقادة للفكر، وتقدم للمسيحيين المعرفة الكافية التي تمكنهم من الرد على خصومهم، سواء كان ذلك في مجادلات فردية أو جماعية.

وتأسست مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في منتصف القرن الأول الميلادي على يد مرقس الذي أدرك بثقافته العبرية واللاتينية واليونانية طبيعة الصراع الفكري وقتها، وكانت المدرسة سبباً في أن تصبح الإسكندرية مركزاً للفكر المسيحي.

بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة لتعلیم الإیمان المسیحي، تقدّم دراسات تؤهل المسيحيين لنيل سر المعمودیة حسب المفهوم المسيحي، وفتحت أبوابها أمام الجمیع، یلتحق بها أناس من دیانات مختلفة وثقافات متباینة.

عُرفت المدرسة باهتمامها بالبحث العلمي، فلم یكن الأساتذة مجرد محاضرین یلقنون الطلبة ما یریدون، لكنهم بالأكثر كانوا یهتمون بتقدیم المشورة في البحث والتنقیب مع المناقشة المستمرة، كما امتازت المدرسة بعدم الفصل بین الدراسة والحیاة الإیمانیة، فكانت العبادة تمارس جنباً إلى جنب مع الدراسة، إذ یمارس المعلّمون وتلامیذهم الصلاة والصوم وحیاة النسك بغیة الدخول في طریق الكمال المسیحي.

مشاهير أساتذة مدرسة الإسكندرية  

اشتهرت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بالكثير من الفلاسفة. 

من هؤلاء، أثیناغوراس الفیلسوف، وكان شخصیة فلسفیة كبیرة، مولعاً بالبحث في أمر الدیانة المسیحیة كغیره من الفلاسفة الوثنيين طمعاً في كشف أخطائها وٕإظهار فسادها، ثم انجذب للإیمان بها، تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة اللاهوتیة حوالي عام 176، وهو أول فیلسوف يصبح مديراً للمدرسة دون أن یخلع عنه زي الفلاسفة.

يُذكر كذلك القدیس بنتینوس الذي ولد في الإسكندرية في أوائل القرن الثاني، وهناك اعتنق المسیحیة على ید أثیناغوراس، وكان فيلسوفاً رواقياً، وتولى رئاسة مدرسة الإسكندریة حوالي عام 181، ونال شهرة فائقة، وٕإلیه ینسب إدخال الفلسفة والعلوم إلى المدرسة لكسب الهراطقة والوثنیین المثقفین، وهو الذي فكر في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية، لكنه رأى كل الخطوط المصرية من هيروغليفية وهيراطيقية وديموطيقية صعبة الكتابة، فاستعار الأحرف اليونانية وأضاف إليها سبعة أحرف من الديموطيقية وكوّن منها جميعاً الأبجدية القبطية.

عندما ظهرت المسيحية في الإسكندرية كان عليها أن تتصارع مع كل الأديان والفلسفات والمذاهب... هكذا حدثت مفارقة عجيبة في المدينة، فاتخذ كل من الفريقين أسلحة الآخر ليحاربه بها، إذ درس المسيحيون الفلسفة للرد على الفلاسفة، ودرس الوثنيون الكتاب المقدس لمهاجمة المسيحيين

وهناك أيضاً إكلیمنضس السكندري، وهو من أبرز تلاميذ بنتينوس. وُلد حوالي عام 150 من أبوين وثنيين، وكان قبل تحوله إلى المسيحية فیلسوفاً وثنياً درس فلسفة اليونان ثم جال يطلب العلم في بلاد اليونان وإيطاليا وفلسطين ومصر وبلاد الشرق الأدنى، وتتلمذ على ید القدیس بنتینوس، وصار مساعداً له.

سُیّم كاهناً في الإسكندریة، وبعدما سافر أستاذه بنتینوس إلى الهند عام 190 تسلم رئاسة المدرسة إلى حین عودته، وهو واضع السياسة التعليمية الجريئة التي سارت عليها مدرسة الإسكندرية المسيحية في كافة عصورها، حدد من خلالها العلاقة بين الفلسفة والدين، وهو المؤسس الحقيقي لعلم اللاهوت المسيحي.

إلى جانب هؤلاء، العلامة أوریجینوس، ویُعتبر من أبرز الشخصيات التي ظهرت في تاريخ الكنيسة المسيحية. وُلد في الإسكندرية من أبوين مصرين مسيحيين حوالي عام 185، درس الفلسفة على يد أستاذه إكلیمنضس، واستطاع في سن مبكرة أن يستوعب قدراً ضخماً من المعلومات فألمّ بالفلسفة والمنطق والهندسة والرياضيات والموسيقى والبلاغة، وجمع بين معلومات المدرستين المسيحية والوثنية.

وإذ تُركت مدرسة الإسكندرية بلا معلّم بسبب الاضطهاد، ورحیل القدیس إكلیمنضس، عینه البابا دیمتریوس رئیساً للمدرسة حوالي عام 203، وهو بعد في الثامنة عشر من عمره. وقد بلغت مدرسة الإسكندریة في عهده أوج عظمتها، لا سيما أنه وضع علم اللاهوت المسيحي على أسس منظمة.

القدیس دیدیموس الضریر من بين هؤلاء كذلك. وُلد في الإسكندرية عام 313، وفقد بصره في الرابعة من عمره، فلم يتعلم القراءة في مدرسة، وإنما بسبب ولَعِه بالتعلم اخترع الحروف البارزة بالنحت ليقرأها بإصبعه، وبهذا سبق بخمسة عشر قرناً في استخدام الحروف البارزة.

ورغم أنه فقد بصره صبیاً، إلا أنه تمكن من النبوغ في نواحي المعرفة العدیدة، مثل الفلك والحساب والهندسة والموسیقى، ودرس النظریات الفلسفیة المختلفة، وحفظ الكتاب المقدس والتعالیم الكنسیة عن ظهر قلب. تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة خلفاً للقديس مقاریوس.

العلاقة بين المدرستين الوثنية والمسيحية

كانت المدرسة الوثنية قد بلغت ذروتها في العلوم والفلسفة في القرون الأولى للمسيحية، ولم يكن هناك أية مدرسة في العالم القديم تعادلها كمركز للدراسات الطبيعية والعلمية في الطب والتشريع والرياضيات والفلك والجغرافيا.

وإذا كانت أثينا قد تميزت بدراسة الفلسفة، فإن مدرسة الإسكندرية الوثنية درّست كل هذه الفلسفات، حتى أنها أنجبت الأفلاطونية الحديثة، وتزعمت الغنوصية، ونشرت هاتين الفلسفتين في أرجاء العالم. لهذا كله، كانت المدرسة الوثنية القوية منافسة خطيرة للمدرسة المسيحية الناشئة التي كانت تُمثل أعلى مجهود للمسيحيين في نزاعهم الفكري مع الوثنية.

مع ذلك، عاشت المدرستان جنباً إلى جنب، كل منهما كان لها طابعها الجامعي وهدفها الخاص، وكانتا كمرآة تعكس الحالة الثقافية في الإسكندرية وقتذاك، وقد أثرت كل منهما في الأخرى، وكانت المنافسة الجبارة بين المدرستين ذا أثر فعال في نهضة وازدهار العلوم والفلسفة واللاهوت في تلك القرون الأولى.

المقال على رصيف22

المراجع:

  • الراهب القس أثناسيوس المقاري، الكنائس الشرقية وأوطانها الجزء الثاني كنيسة مصر، الجزء الثاني، القاهرة، 2007.
  • آلان ك. بومان، مصر ما بعد الفراعنة: من الإسكندر إلى الفتح العربي، ترجمة: السيد جاد، السيد رشدي، رضا رسلان، الإسكندرية، 2013.
  • د. آمال محمد الروبي، مظاهر الحياه في مصر في العصر الروماني اجتماعيا واقتصاديا وإداريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.
  • القمص تادرس يعقوب ملطي، آباء مدرسة الإسكندرية الأولون، 1980.
  • د. جوزيف نسيم يوسف، مجتمع الإسكندرية وانتشار المسيحية، مجتمع الإسكندرية عبر اللعصور، مطبعة جامعة الإسكندرية، 1973.
  • روجر س. باجنال، مصر فى اواخر العصور القديمة، ترجمة: السيد جاد، عبداللطيف فايز، 1993.
  • د. محمد محمد مرسي الشيخ، معالم تاريخ مصر البيزنطية.
  • مراد كامل، حضارة مصر فى العصر القبطى، القاهرة، مطبعة دار العالم العربي.
  • د. مصطفى العبادى، مصر من الإسكندر الاكبر إلى الفتح الإسلامي، الإسكندرية، مكتبة الأنجلو المصرية، 1999.
  • ه. أيدرس بل، مصر من الاسكندر حتى الفتح العربى، نقله إلى العربية وأضاف إليه: د. عبداللطيف أحمد علي، بيروت، دار النهضة العربية، 1973.


كيف استعاضت كرنفالات الموالد الشعبية عن الآلهة القديمة بالقديسين والأولياء

 

الأربعاء 11 يوليو 201812:47 م
للأولياء والقديسين مكانة كبيرة في قلوب المصريين، والموالد هي أكثر طرق التعبير الشعبي والوجداني عن تلك المكانة، حتى إنهم يخلدون سيرتهم وذكراهم في نحو 2850 مولداً، بحسب كتاب "قراءات في موسوعة المجتمع المصري" لعالم الاجتماع سيد عويس.

كرنفالات شعبية تكريماً للقديسين

 تعتبر الموالد المصرية كرنفالات شعبية، لا أصل ديني لها سوى تكريم الولي أو القديس، فهي نتاج تراكم ثقافي يمتد لمئات السنين، ولا ترتبط بالضرورة بمناسبة ميلاد الولي أو القديس كما يوحي الإسم، فيقول الدكتور فاروق أحمد مصطفى، جامعة الإسكندرية، في كتابه "الموالد: دراسة للعادات والتقاليد الشعبية في مصر" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب: "الغرض الأساسي الذي تقام الموالد من أجله، هو في الواقع تكريم أصحابها وإحياء ذكراهم، بصرف النظر عن مراعاة اليوم الذي ولد فيه صاحب المولد، وذلك لأن غالبية أولئك الأولياء لم نعرف تاريخ ميلادهم على وجه الدقة، كما لم يعرف أي شيء عنهم في طفولتهم وصباهم". كما يذكر أن المسلمين يشاركون الأقباط في هذه الاحتفالات فتبدوا وكأنها احتفالات وطنية عامة. 
والموالد تعود في جذورها إلى احتفالات مصرية قديمة، ففي كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بعنوان "مقدمة في الفولكلور القبطي"، يقول الباحث عصام ستاتي: "ظاهرة الموالد في مصر قديمة قدم مصر نفسها، فالاحتفال بالموالد تقليد راسخ يرجع إلى عصر الحضارة المصرية القديمة، فالموالد امتداد لاحتفالات مدن وقرى مصر القديمة بآلهتها ورمز لها، ومع مرور الزمن ودخول المسيحية ثم الإسلام إلى مصر، استعاض المصريون عن الآلهة القديمة بالقديسين والأولياء، واتخذوا منهم رموزاً للمدن والقرى وأصبحوا يتبركون بهم بوجود مقاماتهم وأضرحتهم". أما عن الموالد القبطية، فهي في أصلها إحياء ذكرى استشهاد أو نياحة (وفاة) القديس صاحب المولد، وتمتد بطول مصر وعرضها، من مولد "العذراء" بجبل درنكة بأسيوط، إلى "مار جرجس" كفرالدوار، مروراً بمولد "الست دميانة" بمنطقة براري بلقاس بالدقهلية، حتى مولد "الأنبا شنوده" بسوهاج.

طبيعة الموالد المسيحية

في العدد السادس من سلسلة كراسات قبطية التي تصدرها مكتبة الإسكندرية، تحت عنوان "الموالد القبطية"، يرصد الباحث أشرف أيوب معوض، طبيعة الموالد المسيحية بعدة مظاهر، منها: 1- يتم الاحتفال بمولد القديسين في ذكرى نياحتهم، وهو اليوم الذي أتم فيه البطل جهاده، ولا يهم الكنيسة يوم الولادة، فهو يوم لا يقترن بأي بطولة أو إعجاز. 2- زفة الأيقونة: وهي أهم ما يميز الموالد المسيحية، وهذه الأيقونة صورة للقديس، وتختلف عن الصورة العادية، لأن الأيقونة لها صبغة طقسية وعقائدية، ويصلى عليها قبل وضعها في الكنيسة، ويحمل الأيقونة نفر من الشمامسة، يتقدمهم الكاهن، ويرتلون الألحان القبطية في موكب عظيم. 3- تقديم النذور والأضاحي: ومن أهم الأضاحي والنذور التي تقدم في الموالد هي الأبقار والخراف، حيث أن هناك حرصاً شديداً على إيفاء النذر إذا تحقق الأمر الذي نذر من أجله. 4- يعتبر النشاط الاقتصادي من أبرز مظاهر المولد، وذلك لأن آلاف الزوار يأتون من شتى أنحاء البلاد ويبيتون عدة ليالٍ في المولد، لذا يستلزم وجود خدمات المطاعم وتجارة المواد الغذائية، وأيضاً لعب الأطفال. 4- يعتبر النشاط الاقتصادي من أبرز مظاهر المولد، وذلك لأن آلاف الزوار يأتون من شتى أنحاء البلاد ويبيتون عدة ليالٍ في المولد، لذا يستلزم وجود خدمات المطاعم وتجارة المواد الغذائية%8 5- الوشم: يعتبر الوشم من الظواهر المنتشرة في الموالد المسيحية ويسميه العامة "الدق. 6- بائع الصور المسيحية: نلاحظ أن هناك أكشاكاً كثيرة منتشرة في أنحاء المولد لبيع الصور المسيحية، أيضاً بعض المناديل والإشاربات المطبوع عليها صور القديسين، وأيضاً حلية الصليب إذا كانت في صورة ميدالية أو صورة معدنية أو جلدية.

أشهر الموالد المسيحية

يوجد العديد من الموالد المسيحية، التي تمتد على طول خريطة البلاد، فـ"القديس" الواحد قد يكون له أكثر من مولد في مصر، مثل موالد القديسة مريم العذراء، وموالد مار جرجس، ونستعرض هنا أهم هذه الموالد.

مولد العذراء بجبل درنكة

يقام في فترة صيام العذراء من 7 - 21 أغسطس بدير العذراء بالجبل الغربى لمدينة أسيوط، الذي يقع على ارتفاع مائة متر من سطح الأرض، ويبعد عن مدينة أسيوط نحو ثمانية كيلومترات فى قرية تسمى "درنكة".  وترجع أهمية المكان لوقت زيارة العائلة المقدسة لمصر هرباً من هيرودس الملك، حيث أقامت السيدة العذراء والطفل يسوع ومعهم يوسف النجار بالمغارة التي يقال إنها كانت محجراً فرعونياً قديماً، والتي صارت أقدس مكان في الدير فيما بعد، وتعرف باسم كنسية "المغارة"، وهذا المكان أقصى مكان وصلت إليه العائلة المقدسة فى صعيد مصر، ومن الدير بدأت رحلة عودتها لأرض فلسطين، لذلك يعتبر دير السيدة العذراء بدرنكة واحدًا من أهم المزارات الدينية والسياحية بمحافظة أسيوط. توجد بدير درنكة مجموعة من الكنائس أقدمها كنيسة السيدة العذراء المغارة، وطول واجهتها 160 متراً وعمقها 60 وهي منذ نهاية القرن الأول المسيحي، وهناك كنيسة السيدة العذراء المنارة. ويقطع القادمون للاحتفال بمولد العذراء بدرنكة ثلاثة كيلومترات من غرب المدينة ثم يتوجهون إلى قرية درنكة، بعدها يسلكون طريق الجبل مسافة كيلومتر. ويزور الدير في هذه المناسبة حوالي مليوني زائر، مسيحيون ومسلمون، ومنهم زوار من جنسيات أفريقية مثل أثيوبيا والصومال والسودان، وأيضا من دول أخرى عديدة. ومن أهم مظاهر الاحتفال بمولد العذراء بقرية درنكة ما يعرف بالـ "دورة" أو "الزفة"، التي تتشكل من موكب كبير يتجمع فيه الزائرون يتقدمهم الأسقف والكهنة والشمامسة، حاملين أيقونة كبيرة للعذراء يطوفون بها حول الدير مرددين الألحان والترانيم وتماجيد العذراء، والتماجيد هي أناشيد أو مدائح تقال للقديس المحتفل به، وبعد انتهاء هذا الموكب تبدأ الصلاة اليومية الخاصة بصيام العذراء والتي تعرف باسم "نهضة العدرا". ويشهد مولد العذراء مريم بجبل درنكة بأسيوط إقبالًا من المسلمين والأقباط. كما يشارك المسلمون الأقباط في ذبح الأضاحي، وإشعال الشموع أسفل صورة السيدة العذراء تبركًا بها. ويردد كهنة دير درنكة وزوار المكان العديد من التجليات والظهورات النورانية للعذراء مريم، كانتشار أسراب الحمام وظهور هيئة نورانية بالشكل المعروف للعذراء.

مولد العذراء بجبل الطير

 يقام من 18 إلى 25 مايو، بدير العذراء بقرية جبل الطير، سمالوط المنيا، ويقع فوق الجبل شرق النيل على بعد حوالي 2 كم من نهر النيل أمام مركز سمالوط، و20 كم من مدينة المنيا. تستمد أهمية المكان أيضاً من كونه من أبرز أهم المحطات في زيارة العائلة المقدسة لمصر، حيث انتقلت العائلة المقدسة من البهنسا إلى مدينة سنوبوليس بالقرب من سمالوط الآن، ومنها عبرت النيل إلى الجانب الشرقي حيث يقع دير جبل الطير. وللمكان أسماء عديدة، منها "جبل الطير" لكثرة وجود الطيور المهاجرة من أوروبا، و"دير البكرة" حيث كان يوجد بالدير بكرة تستخدم لصعود ونزول الجبل، كما يقال إن العائلة المقدسة وهى بجوار الجبل، كادت صخرة كبيرة أن تسقط عليهم، فمد الطفل يسوع يده ومنع الصخرة من السقوط، وانطبعت كفه على الصخر فسمي أيضاً "دير الكف".    والدير عبارة عن كنيسة محفورة فى حضن الجبل، وتعود إلى القرن الرابع الميلادي، فقد بنتها الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين، إذ أعادت اكتشاف المغارة التي اختبأت فيها العائلة المقدسة وحولتها إلى كنيسة، ويتكون صحن الكنيسة المنحوت من قطعة واحدة من الصخر. وتأخد احتفالات مولد العدرا بجبل الطير طابعاً شعبياً في حضور مسيحيين ومسلمين وأيضاً زوار أجانب، فيرددون مديحة أو أنشودة "على دير العدرا وديني"، على وزن لحن "على بلد المحجوب وديني" تقول كلماتها: على دير العدرا وديني أوفي ندري والرب راعيني يا مراكبي وديني للعدرا وأعطيك من ندري شمعة توضعها فى بيتك بركة على دير العدرا وديني أمدح فيكي يا أم يسوع يا شفيعة لكل الجموع ومكانك على جبل مرفوع على دير العدرا وديني يا شفيعة فوق الشهدا يا منيعة من زارك يصفى من يزورك ربك أعطاه على دير العدرا وديني ومن أشهر المدائح الشعبية عن السيدة العذراء مديحة "رشوا الورد" تقول كلماتها: رشوا الورد يا صبايا رشوا الورد مع الياسمين رشوا الورد وصلوا معايا العذراء زمانها جاية يا موالي ساعدوني فى مديح مريم دعوني وأنشد الأوزان مغرم فى البتول نور العيون أسمعوا يا أهل فنى وأعزلوا العزال عني حب مريم قد فتني دع يقولوا ده جنون مدحك كالشهد وأحلى للعلا قد صار أعلى قيل جوهر قلت أغلى مايعادله بنون وأيضاً ترنيمة عن دخول العائلة المقدسة أرض مصر، ترنيمة "يا مصر يا بختك يا هناكي" تقول: يامصر يا بختك يا هناكي بالطفل يسوع لما جاكي إداكي البركة السماوية يا مصر يا بختك يا هناكي وترتبط الموالد لدى الأقباط بإيفاء النذور، وذبح الأضاحي، ودق وشم الصليب على المعصم اليمين، وتُستخدم في عمل الوشم آلة صغيرة بحجم كف اليد تعمل بالكهرباء.

مولد القديسة دميانة ببراري بلقاس

 يقام في الفترة من 13 - 20 مايو، بدير القديسة دميانة غرب فرع دمياط للنيل في محافظة الدقهلية، على مسافة حوالي 12 كم شمال بلقاس، في منطقة تسمى براري بلقاس، وتسمية المنطقة بالبراري ترجع إلى أن أجزاء كبيرة من هذه المنطقة كانت خالية من الزراعة. ومولد القديسة دميانة هو احتفال بذكرى تدشين كنيستها، وهي المكان الذي استشهدت فيه مع الأربعين عذراء، وتعود قصتها إلى عهد الملك دقلديانوس، أشهر من حارب المسيحيين واضطهدهم، وكانت دميانة العذراء الابنة الوحيدة لمرقس والي البرلس والزعفران، يحكى عنها أنها لما بلغت من العمر خمس عشرة سنة أراد والدها أن يزوجها فرفضت، وأعلمته أنها قد نذرت نفسها لله.
يعرف عن أهل مصر حبّهم للقديسيين والأولياء الذين يخلدون سيرتهم وذكراهم في نحو 2850 مولداً
"يامصر يا بختك يا هناكي بالطفل يسوع لما جاكي" من ترنيمة دخول العائلة المقدسة إلى مصر
ولما قبل والدها ذلك طلبت منه أن يبني لها مسكناً تتعبد فيه هي وصاحباتها، فاستجاب وبنى لها المسكن الذي أرادته، فسكنت فيه مع أربعين عذراء، كن يقضين أغلب أوقاتهن في الصلاة ومطالعة الكتاب المقدس. وبعد زمن أرسل دقلديانوس الملك، وأحضر مرقس والد القديسة دميانة وأمره أن يسجد للأوثان. فامتنع أولاً، غير أنه بعد أن لاطفه الملك انصاع لأمره وسجد للأوثان خوفًا على ابنته ومنصبه. ولما عاد مرقس إلى مقر ولايته، وعلمت دميانة ابنته بما عمله والدها، أسرعت إليه وعنفته على ما فعل حتى تأثر مرقس من كلام ابنته وبكى بكاء مراً، وأسرع إلى دقلديانوس واعترف بالسيد المسيح، ولما عجز الملك عن إقناعه أمر بقطع رأسه. ولما علم دقلديانوس أن الذي حول مرقس عن عبادة الأوثان هي دميانة ابنته، أرسل إليها أميراً، وأمره أن يلاطفها أولاً، وإن لم تطعه يقطع رأسها، فذهب إليها الأمير ومعه مئة جندي، ولما وصل إلى بيتها دخل إليها وقال لها: أنا رسول من قبل دقلديانوس الملك، جئت أدعوك بناء على أمره أن تسجدي لآلهته، لينعم لك بما تريدين، لكنها رفضت بشكل قاطع ووبخت عبادة الأوثان، فغضب الأمير وأمر أن توضع بين هنبازين وأن يتولي أربعة جنود عصرها فجرى دمها علي الأرض. وكانت العذارى واقفات يبكين عليها، ولما أودعوها السجن ظهر لها ملاك الرب ومس جسدها فشفيت من جميع جراحاتها، وتفنن الأمير في تعذيب القديسة دميانة، تارة بتمزيق لحمها وتارة بوضعها في شحم وزيت مغلي، وفي كل ذلك كان الرب يقيمها سالمة، ولما رأى الأمير أن جميع محاولاته فشلت أمام ثباتها أمر بقطع رأسها هي وجميع من معها من العذارى. بعد استشهاد القديسة دميانة مع العذارى دُفنت أجسادهن في المكان الذي تعبدت فيه، إلى أن جاءت الإمبراطورة هيلانة أم الملك قسطنطين في القرن الرابع الميلادي، وبنت مقبرة خاصة بهن وكنيسة على هذه المقبرة، ثم طلبت من القديس ألكسندروس بابا الإسكندرية التاسع عشر (313-326م) تدشين هذه الكنيسة. يتوافد آلاف المواطنين المسيحيين على دير القديسة دميانة في براري بلقاس بالدقهلية، لحضور عيد تكريسها السنوي، ويأتي أيضاً كثير من المسلمين لحضور المولد والتبرك بالقديسة، حيث تنصب الخيام حول الكنيسة لمبيت الزوار، وينتشر باعة الهدايا والتذكارات الدينية وباعة الحمص والحلاوة ولعب الأطفال. وتتنوع مظاهر الاحتفال ما بين "زفة الأيقونة" أو صورة القديسة دميانة التي يطوف بها الكهنة والشمامسة مرددين الألحان والصلوات والسهرات والتجمعات التي ينشد فيها الزوار الترانيم والمدائح لدميانة، ويردد الجموع كثيراً من الأغاني بالطبول والزغاريد، منها: ست دميانة يا شهيدة يا طاهرة اليوم جاينلك بزيارة مباركة جايين نزورك نتملى بنورك عايزين يا ستي شفاعتك ويانا في قصر عالي فوق في البراري ويا أربعين قديسة عيشتى فرحانة سهرانة بتصلى للرب تملي جه عدو الخير يحاربك معركة خسرانة طلب أبوكي يجوزوكي رفضتي يا طاهرة وقولتي عريسى إللى فداني

مولد الأنبا شنوده رئيس المتوحدين بسوهاج

 يبدأ يوم 14 يوليو حتى أوائل أغسطس، حيث يتم الاحتفال بذكرى نياحة القديس، في الدير الأبيض بمنطقة أخميم التابعة لمحافظة سوهاج.  دير الأنبا شنودة ويقع دير الأنبا شنودة غرب مدينة سوهاج على بعد 8 كم، وقد اُستخدم فى بنائه الحجر الأبيض، لذلك يسمى بالدير الأبيض، وتم إنشاؤه عام 440 م، وهو من أهم المعالم الأثرية بمحافظة سوهاج وصعيد مصر، ويأتي إليه الأقباط والمسلمون. يقول الباحث اشرف أيوب معوض في كتابه "الموالد القبطية": ولد الطفل شنودة في قرية "شتلالا" بالقرب من أخميم سنة 333 ميلادية، وكبر القديس وترهبن، وكان لا يأكل إلا عند غروب كل يوم، ولا يتناول إلا القليل جداً، وطعامه كان الخبز والملح والماء، وفي صوم الأربعين المقدسة كان يقتات بالنباتات فقط، وذكر عنه المقريزي: "أنه مراراً كان يطوي الأربعين المقدسة، ولتقشفه الزائد وضعف جسده التصق جلده بعظمه، ومرة في أسبوع الآلام ربط نفسه على صليب تشبهاً بالسيد المسيح، وكان يصلي كثيراً بدموع غزيرة وتوسلات لأجل جميع الناس خصوصاً الخُطاة، وينام قليلاً من الليل". ويعتبر الأنبا "شنوده" من أوائل الأقباط الذين طالبوا بالعودة للثقافة المصرية في مواجهة الغزو الثقافي والديني للاحتلال البيزنطي، وفتح الأديرة لكل المصريين، ولقب بـ"عميد الأدب القبطي"، ولقب أيضاً بـ"أرشمندريت" أي رئيس المتوحدين، الذي اشتهر به، لأنه كان يمارس حياة الوحدة من حين إلي آخر. ومثل كل الموالد القبطية "زفَّة الأيقونة" هي أهم المظاهر المميزة، حيث يتقدم الأسقف أو كبير الكهنة حاملاً "أيقونة القديس الأنبا شنودة"، وخلفه مجموعة كبيرة من الشمامسة يحملون الصلبان، ويخرج الموكب من كنيسة الدير ويطوفون وسط الألحان القبطية بآلات الموسيقى الكنسية.

مولد الأنبا برسوم العريان

يقام في الفترة من 9 - 27 سبتمبر، في دير القديس برسوم العريان في المعصرة قرب حلوان بالقاهرة.  دير القديس برسوم العريان والأنبا برسوم هو قديس مصري وُلد عام ١٢٥٧م، وكان والده يعمل كاتباً للملكة شجرة، وبعد وفاة والديه عاش متوحداً في كنيسة مرقوريوس بمصر القديمة، وقبض عليه في فترة اضطهاد تعرض لها المسيحيون، وبعد خروجه ذهب ليكمل نسكه ووحدته في دير المعصرة الذي يقام فيه الاحتفال حالياً، وقد عاش القديس في حياة نسكية جادة مع صلوات وسجود بلا انقطاع، يرتدي قطعة صغيرة من الصوف، في الصيف والشتاء، ولهذا أطلق عليه اسم "العريان".  وتقام خلال فترة الاحتفال أو المولد نهضة روحية وهي عبارة عن صلوات يومية يتخللها تماجيد للقديس وتنتهي بعظة يلقيها أحد الآباء الكهنة، وتتخللها أيضاً "زفة الأيقونة" التي تطوف بصورته الكنيسة وأرجاء الدير. كما يقام خلال المولد معرض لجميع مشغولات الدير، من ملابس وأعمال يدوية، وسجاجيد ومفروشات، ولعب أطفال، وتقدم أحياناً بعض العروض المسرحية والترفيهية.  يصف الباحث عصام ستاتي مولد الأنبار برسوم في كتابه "مقدمة فى الفولكلور القبطي" قائلاً: يسود جو من التسامح الديني، فنجد المسلمين يشيرون لمار برسوم العريان بـ"سيدي محمد البرسوم" أو بـ"سيدي البرسومي" أو بـ"سيدي العريان". ولأن للقديس قصة شهيرة مع ثعبان استطاع بالصلاة أن يروضه ويعيش معه في المغارة سنوات طويلة، لذلك يربط المسلمون كما يذكر عصام ستاتي بينه وبين بعض الأولياء، وبينه وبين الرفاعي في مسألة التعامل والتعايش مع الأفاعي، فنجد الهتاف المتكرر "عم يا عريان يا طب التعبان" و"عم يا رفاعي يا طب الأفاعي".

مولد مار جرجس ميت دمسيس

 يبدأ في 22 أغسطس ويستمر 10 أيام، في قرية ميت دمسيس بمركز أجا بالدقهلية. وهو احتفال بعيد استشهاد "مار جرجس"، كما يقام في نفس القرية في أغسطس أيضاً مولد الشهيد محمد بن أبى بكر الصديق، لذلك يحدث رواج اقتصادي للقرية خلال هذه الفترة. ومثل كل الموالد تقدم الأضحية وتوفى النذور، وينتشر باعة الحمص والهدايا التذكارية، والملابس المطبوع عليها صور الشهداء والقديسين، كما يوجد باعة يبيعون الجبن القريش والسمن البلدى والفطير، بجانب دق الصليب والوشم، ويكثر أيضاً الزوار المسلمون الذين يحرصون على حضور مولد مار جرجس. ويوجد باعة مسلمون يبيعون الصلبان والهدايا. ومار جرجس هو أشهر قديس في مصر، وله شهرة كبيرة في دول كثيرة في العالم، وصورته الشهيرة يظهر فيها كمحارب يقتل التنين رمز الشر من فوق حصانه. 

المقال على رصيف22


المراجع: 
  • كتاب "قراءات في موسوعة المجتمع المصري" لعالم الاجتماع سيد عويس
  • كتاب "الموالد: دراسة للعادات والتقاليد الشعبية في مصر" للدكتور فاروق أحمد مصطفى، جامعة الإسكندرية، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب
  • كتاب "مقدمة في الفولكلور القبطي"، للباحث عصام ستاتي، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة
  • العدد السادس من سلسلة كراسات قبطية التي تصدرها مكتبة الإسكندرية، تحت عنوان "الموالد القبطية"، للباحث أشرف أيوب معوض.