Tuesday, November 16, 2021

حقوق الفرد وحقوق المجتمع

 غضب المجتمع لو البنت لبست براحتها أشد من غضبه لو البنت اتعرضت للتحرش أو العنف الأسري.. 

غضب المجتمع من الإزدراء الديني أشد من غضبه من العنف والقتل باسم الدين..

هل فيه علاقة بين الحالتين؟

محاولة للإجابة:

فيه حاجتين دايما قصاد بعض في أي مجتمع (حقوق الفرد وحقوق المجتمع)..

في عالمنا الشرقي حقوق المجتمع اكثر تقديسا من حقوق الفرد.. مهما كان حق المجتمع بسيط زي تضرره من لبس البنت أو مجرد رأي سلبي فى عقيدته.. ومهما كان فى المقابل حق الفرد كبير زي الضرر الفردي الناتج عن التحرش والعنف أو القتل على الهوية الدينية مثلا..

لبس البنت حق مجتمع فأهميته أعلى

التحرش ضرر فردي فأهميته أقل..


الإزدراء حق المجتمع فأهميته أكبر 

العنف الديني دايما ضد أقلية فمكانته أقل لأن الاقليات فى نظر المجتمع الأم هم أفراد وحقوقهم أقل أهمية..


نروح بقى فى المجتمعات الغربية هنلاقي العكس 

الفرد مهم.. الإنسان مقدس

حقوق الفرد مقدسة مقابل هيبة الجماعة 

وبالتالى كل اللى فات عندهم النقيض بتاعه تماما

البنت تلبس براحتها بس لو حد لمسها المجتمع كله ينتفض

إهانة أي دين أو أي رمز أو أي فكر  مباحة لكن لو فرد اتعرض للعنف بسبب دينه المجتمع كله يغضب ويثور..


ده فرق مهم يفسر ليه اكبر ازماتنا بتكون بسبب رسمة مسيئة أو رأي صادم أو حتى جيبة قصيرة


بينما اكبر ازماتهم هم ان مواطن يهان أو يقتل او حتى يتعرض للتنمر

Monday, March 29, 2021

إيليا سمير

 


كبرنا معا، نضجنا معا، تشكلت كل خلايا وعينا معا، ولفرط محبتك لم تكن مجرد صديقا بل روحا ثانية لي، ثم مع مر السنين حدث التراكم، هل تعرف ماهو التراكم يا إيليا؟ هو أن تتراكم معرفتنا ببعض شيئا فشيئا، فتصبح أكثر الناس فهما لي، وتصبح الفضفضة معك علاجا نفسيا، ويصبح البوح معك مثل سر الاعتراف المقدس، حتى نصل إلى أعلى درجات الصداقة حين لا نحتاج إلى "الكلام" لنفهم بعضنا بعضا، وكنت كلما كتبت شيئا تلهفت لمعرفة رأيك، فكان هو جواز المرور لما أكتب، حتى كتابي "حارة النصارى" ما كان ليحقق ما حققه من نجاح لولا اختيارك أنت للاسم الذي لاقى قبولا واسعا ربما أكثر من محتوى الكتاب نفسه، فأنت الشخص الذي دائما يضيف شيئا، ودائما يعطي ويمنح، ودائما مجسدا لكلمات الإنحيل: "مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ"، ومن هم مثلك يا إيليا، أقصد هؤلاء الذين يأسرون قلوبنا ويعتقلون أرواحنا، لا بدائل لهم، فإن غابوا صارت الروح مطفأة، وإن رحلوا صارت كل السنين عجافا.

خاطب المسيح الجموع في الموعظة على الجبل قائلا: "وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْن"، ثم جئت أنت لتقدم التطبيق العملي لهذه الآية، فقد عشت بيننا إنجيلا مُعاشا، تجول كالمسيح تصنع خيرا، لم تفرق في سعيك لخدمة الآخرين بين أحد، لا فرق دين ولا فرق سن ولا فرق مسافات، يعرف جميع من عرفك هذا، بل حتى كورونا حين سخرتك ميلا ذهبت معها اثنين بل أكثر.

خذلنا رحيلك المفاجئ وأربك حياتنا، غامت السماء يومها فكان كيوم صلب المسيح، شعر الجميع أن الحزن يصل الأرض بالسماء، وأيضا خذلتنا الأحداث العامة في الأيام التالية فلم تساعدنا على التعافي، فقد تعطلت السفن فى قناة السويس، وتصادم قطاران في سوهاج، وانهارت عمارة سكنية في القاهرة، واشتعل حريق في عدة محلات بالزقازيق، وفي خط مواز استمرت كورونا فى حصد المزيد من الأرواح، وقد أيقن الجميع أنها لا تمزح، بل عازمة على تنفيذ ما أتت من أجله، خذلتنا الحضارة وعدنا إلى زمن الأويئة، خذلنا العلم والطب، وأيضا خذلنا الله.

أخبرناك يا الله أننا نتمسك بوجود إيليا بيننا، خاطبناك في كل الأماكن التي نؤمن أنك تسكنها، في الكنائس، في الأديرة، في المساجد، في كل بيت وكل مخدع، توسلنا إليك حين انتهت حلول الأرض وبقيت حلول السماء، لكن "يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟".

نطمئن أنفسنا أنك صرت الآن قديسا وشفيعا، فأعمالك صالحة، وكل الخير الذي كنت تصنعه في الخفاء يؤهلك لذلك، وخدمة المرضى التي كانت سبب إصابتك تجعلك شهيد الواجب وشهيد المحبة، ولكن يا إيليا أنا لم أكن احتاجك قديسا بل صديقا، فالقديس لن يخرج معي فى نزهة، ولن نضحك معا، ولن نحكي معا، ولن نغني أحيانا ونرنم أحيانا، ولن نتبادل الكتب والكتابات وآرائنا السياسية، وحده الصديق يفعل.

تقول القوانين الفيزيائية إن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ولكن يمكن تحويلها من صورة لأخرى، وبالمثل في قوانين الحب؛ الأحباء لا يفنون ولكن يأخذون صورا أخرى في قلوبنا، وقد صرت أنت الآن الحبيب في كل قصائد وأغانى الحب، فحين أقرأ لأحمد شوقي "بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واش يفسده" سأتذكرك وأضيف: "ولا الموت ينهيه"، وحين أسمع شادية تغني "فين الحواديت وفين.. سهراتنا تحت الضي" سأفتقد كل حكاياتنا، وحين تغنى وردة "بودعك" سأرفع عيني إلى السماء وألوح لك بيدي، وسأعاتبك مع عبدالوهاب: "لما انت ناوي تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول"، وسأرفض هذا الفراق مع غادة رجب: "ولا يبقى ما بينا فراق على طول.. على طول المدى".

Saturday, March 20, 2021

دكتور محمد رفيق خليل



في كل مرة يردمون جزءا من بحر الإسكندرية لتحويله إلى مجمع كافيهات أدرك أننا خسرنا شيئا صعب تعويضه.. وهو نفس ما أشعر به كلما هدموا قصرا لتحويله إلى برج سكني.. أو شاطئا له طابعه الخاص ليصبح مشروع منتجع سياحي.. أشعر كل مرة أن الإسكندرية تفقد بعضا من ملامحها.. وجزءا من روحها.. ويتجلى هذا الشعور إذا طالت الخسارة شخصا عزيزا على قلب الإسكندرية.. وأحد مفكريها.. وأهم رموزها.. واليوم.. اليوم تحديدا حدثت أكبر الخسائر.. برحيل الدكتور رفيق خليل.. الطبيب والجراح.. الشاعر والفنان.. المفكر والفيلسوف.. أستاذ الجراحة بكلية الطب ورئيس اتيليه الإسكندرية.. كان نقيبا سابقا للأطباء.. ورئيسا سابقا لقسم الجراحة.. وصديقا دائما لكل من عرفه.
كلنا نحب الدكتور مجدي يعقوب ليس فقط لمهارته فى علاج القلوب.. لكن لأنه هو نفسه يحمل قلبا جميلا.. ونحن فى الإسكندرية كان لدينا مجدي يعقوب خاصتنا.. هو الدكتور رفيق خليل.. الذي كان أيضا يحمل قلبا جميلا كقلب طفل.. ووجها باسما كمحب يلقى حبيبا غائبا.. كان منسقا رائعا في ندواته الثقافية.. رقيقا في حواراته.. صديقا في عيادته.. ووحشا كاسرا في غرفة العمليات.. وهو أب عطوف لمريضه بمجرد أن يفرغ من إحدى عملياته.
هذا الطبيب الماهر.. أستاذ الجراحة بكلية الطب كانت قيمة الكشف في عيادته ٥٠ جنيها فقط.. وحين سالته كيف يكون هذا؟ اجابنى أن حتى ال٥٠ جنيها هناك من لا يستطيع دفعها وحين أدرك ذلك احاول ردها دون أن اجرح كرامة المريض.. وقال لي أيضا آن هذا المريض إذا احتاج إجراء جراحة أطلب منه نصف قيمة التكلفة وأجعله يعتقد أن هذا هو كل التكلفة.. مضحيا بأتعابي.. وما يدفعه يكون فقط تكلفة المستشفى والتخدير والمساعدين.. ولا اجعله يعرف انني لم آخذ شيئا.. كان طبيبا للغلابة أيضا.. وقال لي إن المريض يجب أن يشعر أن الطبيب صديقه.
عيادة الدكتور رفيق لم تكن مجرد عيادة.. فهي مكتبة ثقافية.. بها كتب الطب وكتب الثقافة.. بها لوحات فنية مهداة من فنانين.. بها قصائد معلقة كتبت فى حب دكتور رفيق.. وفي عيادته تسمع أثناء جلوسك موسيقى هادئة قد لا تحتاج بعدها إلى طبيب.
دكتور رفيق كان محبا للفنون وكان من مؤسسي معهد كونسفتوار الإسكندرية الأوائل.. وأول من أدخل مناهج تعليم الموسيقى الدولية وتحديدا مناهج وامتحانات رويال سكول الدولية إلى مصر.. وهذا أقل القليل فهناك ماهو أكثر ويستطيع أن يخبرنا به من كان أكثر قربا منه.
قبل معرفتي به منذ أكتر من خمسة عشر عاما.. وأثناء حضوري أمسية شعرية كان يديرها في متحف الفنون بمكتبة البلدية.. وكنت قد أتيت الندوة بعد بدايتها.. فوجئت به بعد عدة فقرات لبعض الشعراء يقدمني كشاعر لالقاء قصيدة.. وفوجئت بهذا لأنني لم اتوقع أن يتذكرني حيث كنت قد ألقيت قصيدة فى ندوة سابقة كان يديرها الشاعر الجميل الراحل صبري ابوعلم.. وفقط لمحني وقت دخولي.. كان موقفا بسيطا كاشفا لشخص استثنائي يعرف كيف يشجع حتى الهواة.
لم أرفق مع مكتوبي هذا صورة لي مع دكتور رفيق.. فقد اكتشفت أنني لم اهتم أبدا في كل مرة رأيته أن آخذ صورة معه.. فوجوده كان يبعث حالة سكينة وسلام.. يدرك ذلك كل من عرفه.. وهي أشياء لا يمكن تصويرها وحالة لا تستطيع رصدها بالكاميرات.
حين عرفت بالرحيل.. لم أتقبل الخبر ولا زلت.. وظللت أردد كلمات إحدى الأغنيات التي تقول.. "حظنا صعب وعنيد".. واخيرا.. أهداني دكتور رفيق ذات مرة رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" لأديب الإسكندرية الكبير إبراهيم عبدالمجيد.. الذي هو بدوره أصفه دائما أنه نجيب محفوظ الإسكندرية.. وتحكي الرواية عما تعرضت له الإسكندرية من قصف وتدمير جراء معارك العلمين في الحرب العالمية الثانية.. واستطبع الآن أن أخبر حبيب الإسكندرية الراحل دكتور رفيق.. أن الإسكندرية ستنام حتى إشعار آخر.. فوجودك كان أحد أسباب اليقظة.. وسنحتاج دورة حضارية كاملة حتى تمنحنا الأقدار شخصا آخر مثلك.

Sunday, January 31, 2021

فيلم الأيدي الناعمة

 

أراد فيلم الأيدي الناعمة أن يقدم صورة نموذجية لنتائج ثورة يولو وما أحدثته من ثورة اجتماعية أطاحت بعهد قديم يمثله البرنس العاطل بالوراثة لصالح عهد جديد يمجد العمل والأيدي العاملة، ورغم ذلك لم يخلو الفيلم من رسائل سلبية جاءت في سياق الأحداث بشكل عفوي، لا أظنها متعمدة وإن كانت تحمل بالصدفة ما يمكن أن نسميه تنبؤات بما آلت إليه أحوال المجتمع في وقتنا الحالي.

في أحد المشاهد نرى واحدا من الخدم العاملين بسرايا البرنس العاطل، يقف أمام صورة والد البرنس ويصنع لنفسه شاربا يشبه شاربه، وحين يلومه زميله خوفا من غضب البرنس يقول له: "محدش أحسن من حد"، وهي حالة حقد طبقي واضحة لم تعالجها ثورة يوليو بل قدمت فقط لمن يحملون نفوسا غير سوية فرصة للتشفي وربما الانتقام، ليصبحون فيما بعد هم الأغنياء الجدد فيمارسون التعالي بدورهم على من هم دونهم.

ثم يأتي المهندس المكافح الذي تزوج ابنة البرنس بدون رغبة أبيها الذي بدوره يرفض مصاهرة الرعاع حسب قوله، وهذا المهندس بدأ حياته بمشروع ورشة صغيرة، ثم صارت الورشة مصنعا كبيرا وأصبح ثريا يدفع للبرنس فواتيره سرا بل ويعرض عليه إعالته، مقدما نموذج الفتى الأصيل الطيب الخدوم، وبرغم هذه الصورة الإيجابية إلا أن الرسالة السلبية جاءت حين خاطب والد زوجته قائلا: "وانت فوق احتقرت الورشة دلوقتى الورشة هي اللى فوق لكن قلبها طيب ومدالك إيدها فى أى وقت"، هذا التمجيد لل"ورشة" مقابل "السرايا" هو نفسه ما نراه الآن في نواحي مصر كلها، فالورشة صارت هي القاعدة ولها المكانة، وكل "سرايا" هدمت أو تحولت لمبنى حكومي، بعد سنوات من الإلحاح في تفعيل ثقافة احتقار الجمال الذي صار مرتبطا برفاهية مذمومة، وتسفيه "الأصول" حتى لو كان تراثا مجسدا في قصر جميل.

كما تعمد الفيلم التقليل من قيمة العلم النظري، فقدم لنا حامل الدكتوراه عاطلا لأنه تخصص في جزئية دقيقة في اللغة فبات صاحب علم لا ينفع صاحبه، مقابل العلم التطبيقي ممثلا في المهندس الناجح، كما تشير دلالة كلمة "دكتوراه في حتى" إلى أن محبي العلم هم مجرد متحذلقون "بتوع كلام" يضيعون عمرهم في لاشيء، حتى أن السخرية من ال"دكتوراه في حتى" كانت هي الشىء الوحيد الذي اتفق عليه البرنس العاطل وزوج السيدة الجاهل الذي استأجر السرايا.

وفي مشهد تأجير السرايا نفسه نجده الأكثر عبثية والأكثر تمريرا للرسائل السلبية، فالإعلان يقدم عرضا لتأجير السرايا مجانا لمن يعول أهلها ويطعمهم، ولا يهم إن كان من ثقافة مغايرة لا تقدر ثقافة المكان، فدمر كل موروثاتها وتاريخها وملأها بالقطط، فضلا عن فرض أفكاره الرجعية حين قالت السيدة المستأجرة إنها من أنصار فصل الذكور عن الإناث، رغم كونها هي نفسها لا تفارق البرنس وكانت دائمة التحرش به، في إشارة أو تنبؤ لازدواجية المعايير التي يعانى منها المجتمع اليوم.

أما الطامة الكبرى فكانت في مشهد هو الأغرب على الإطلاق، فصاحب الدكتوراه الذي وصل لأعلى الدرجات العلمية حين قابل الفتاة الجميلة الشابة ابنة البرنس والتي تمارس عملها كرسامة وفنانة تشكيلية، أي حين التقى العلم والفن وأكلا معا "آيس كريم" ألقوا بعلبة الآيس كريم على الأرض بكل بساطة، في تصالح شديد مع فكرة إلقاء القمامة بهذه الطريقة في حديقة عامة، ولا أعلم هل هي إشارة أم تنبؤ بأجيال قادمة ستكون أكثر تصالحا مع هذا السلوك.

بشرنا الفيلم بأشياء جميلة وتنبأ لنا بعكسها في نفس الوقت، بشرنا أن العهد الجديد بعد الثورة سيحمل مشاعر جديدة، حتى الحب سنتهجى حروفه من جديد (با فتحة با) كأننا نغتسل من كل ما يمت للعهد القديم بصلة، ثم تنبأ لنا بأنه لا فرق بين الجديد والقديم وأننا فقط ندور في "دوامة" كما غنت صباح في نفس الفيلم.

 

 

 

فوضى الهدم والبناء في الإسكندرية بعد ثورة يناير

 أحد التحليلات الغائبة عن ثورة يناير هو تحليل أثرها على العمارة والبناء.. إسكندرية مثالا.. من أول فوضى الهدم والبناء حتى تدمير الشواطىء.. مرورا بتسارع الامتداد الرأسي اللي أثر سلبا على البنية التحتية وعلى الكثافة المرورية اللى فوق طاقة الشوارع.. بديلا عن الاتجاه للتوسع الأفقي رغم وجود ظهير فضاء غير مستغل.. وفوق كل ده تدخل الدولة سلبا بكونها طرف منافس بدل ما يكون طرف منظم فاستولت بدورها على ما تبقى من الشواطىء وحولته إلى خلجان صغيرة مدججة بالكافيهات.. وغيرت الشكل التراثي لأهم وأجمل شواطىء الإسكندرية زي شاطىء عايدة في خطة يسمونها تطوير تهدف إلى تحويله مع كامل ساحل المنتزه إلى منتجع سياحي لن يعوض مهما كان جميلا روح المكان وطعمه وتاريخه.. كما أثرت الارتفاعات الراسية على طبيعة شوارع كثيرة فغابت عنها الشمس حتى فى عز الضهر.. كما فقدت الإسكندرية عدد كبير من الفيلات الجميلة فتغيرت معالم مناطق وفقدت طابعها المميز فصارت رشدي كالعصافرة وفلمنج مجرد امتداد لباكوس وتحولت الإسكندرية إلى كتل صماء متراصة من الأبنية المشوهة غير المتناسقة

Sabrin Fakhry, Shaymaa El-Sherif and 53 others
13 Comments
4 Shares
Like
Comment
Share

Wednesday, January 13, 2021

بعد اشتباك فكري مع الوثنية... كيف تحولت الإسكندرية إلى مركز للفكر المسيحي؟

 لم تستطع عبادة الإمبراطور أو الآلهة القديمة، مثل الآلهة اليونانية أو الرومانية، أن تملأ الإحساس بالفراغ الروحي لرعايا الإمبراطورية الرومانية لاتسامها بالتطرف والجمود، ولم تستطع أن تُقدم حلولاً لمشاكل الناس الحاضرة أو المستقبلية، أو تُقدّم لهم المعونة في أوقات الشدة.

هكذا، وبمرور الوقت، فقدت الآلهة القديمة ما كان لها من احترام وتبجيل في عيون المتعبدين، واستمر الفراغ الروحي لدى رعايا الإمبراطورية، لا سيما بين المثقفين منهم وأصحاب الفكر المستنير الذين اهتموا بالمذاهب الفلسفية.

وسط هذا الفراغ، ظهرت المسيحية لتتفوق على ما عداها من عقائد وطقوس، وتتقدم نحو آفاق جديدة لتملأ حياة شعوب الإمبراطورية الرومانية. حصل ذلك في عهد الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر، وكان من أخطر أحداث التاريخ التي غيّرت مسار الأحداث والحياة بكافة مظاهرها، وسط اليهود من الطبقات الدنيا في المجتمع، وفي أنحاء مختلفة ومدن متعددة من القدس والجليل ومن سائر أنحاء فلسطين، وبعضهم كان من مصر ومن ليبيا والقيروان، ومنهم عرب من الجزيرة العربية. 

ارتبط تاريخ المسيحية في المرحلة الأولى بشخصيات ثلاث، لعبت دوراً كبيراً في تقدمها وانتشارها وإرساء أسسها ولاهوتها. وهؤلاء هم بولس وبطرس ومرقس.

الشخصيات الثلاث

وُلد بولس في طرسوس في كيليكية الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم) بين السنة الخامسة والسنة العاشرة بعد الميلاد، ودرس الشريعة اليهودية والناموس، ونال قسطاً من الفلسفة عن طريق التحصيل الشخصي، لأن والده كان قد أبعده عن المدارس اليونانية.

رحل في صباه إلى بيت المقدس طلباً للعلوم الدينية، فتعصّب كثيراً لليهودية، وتعقب من اعتنق المسيحية حتى اعتنقها هو نفسه أثناء ذهابه عام 31 للميلاد إلى دمشق ليتصدى للمسيحية ويوقف انتشارها بين اليهود.

بدأ بولس التبشير بالمسيحية بين اليهود في دمشق، ثم ذهب إلى أنطاكية حيث انتشرت المسيحية بين أهلها انتشاراً واسعاً، فقضى فيها سنوات حتى اختاره كبير المسيحيين فيها للتبشير في الأقاليم المجاورة.

ولهذه الغاية، قام برحلات متعددة، بين عامي 45 و58 للميلاد، عاونه فيها مرقس ورجال آخرين. وفي عام 58، ثار عليه اليهود في هيكل سليمان، وسيق إلى السجن بأمر الحاكم الروماني، حيث قضى نحو عامين، ثم أُرسل إلى روما لمحاكمته أمام نیرون، ويُرجَّح أنه أعدم عام 64 مع بطرس وغيره من ضحايا الامبراطور الروماني.

عُرف بولس بأنه استطاع أن يُحوّل الكنيسة البادئة إلى هيئة منظمة ورسالة عامة، ونجح في أن يُرسي دعائم اللاهوت المسيحي وأسس الكنيسة العالمية، كما نجح في التبشير بالمسيحية حتى انتشرت في سائر أنحاء الشرق، ثم امتدت إلى إيطاليا وأوروبا.

أما ثاني الشخصيات المسيحية الهامة فهو بطرس الذي كان من تلاميذ المسيح. بشّر بالمسيحية في فلسطين بين اليهود، وتابع رسالته في مدينة يافا، ثم شرع في التبشير لكل العالم حتى قُبض عليه وسُجن عام 41 للميلاد. وعندما خرج توجه إلى أنطاكية عام 45 فأقام فيها ثماني سنوات، ثم سافر إلى روما في العام نفسه، ليُؤسس فيها الكنيسة المسيحية قبل أن يجري إعدامه مع بولس وغيره على يد نيرون. 

ثالث الشخصيات المسيحية الهامة كان مرقس الإنجيلي الذي أسس كنيسة الإسكندرية بعد حياة حافلة في معاونة بولس في التبشير، وسافر إلى روما أيضاً لكنه عاد مباشرة إلى الإسكندرية للتبشير فيها بين اليهود، كما غدا أول أسقف مسيحي في الإسكندرية، وكان أول من بشّر بالإنجيل في مصر وعلى يديه اعتنق أول يهودي المسيحية في مصر.

وفي الإسكندرية، لقى مرقس حتفه عام 62، أو عام 68 وفق بعض الروايات، ونقل أهل البندقية رفاته إلى مدينتهم في القرن التاسع للميلاد.

دخول المسيحية إلى مصر

هيأت التجارة الواسعة لمصر وقربها من فلسطين فرصة سهلة للديانة الجديدة من أجل النفاذ إليها، فبدأ بعض أهل مصر اعتناق المسيحية، ثم بدأت تنتشر في سائر أنحاء البلاد، حيث عُثر على أربع برديات قديمة في مصر الوسطى تتعلق بالعقيدة المسيحية وترجع إلى منتصف القرن الثاني الميلادي، ما يؤكد وصول المسيحية إلى تلك المناطق في تلك الفترة المتقدمة، ثم انتشارها في الوجه القبلي أواخر القرن الثاني الميلادي.

بدأ ظهور المسيحية في مصر التي كانت إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية في منتصف القرن الأول ميلادي، ووجد الدين الجديد هناك حقلاً خصباً نتيجة عدد من العوامل. 

من أهم هذه العوامل، تشابه الفكر الديني المصري القديم مع المسيحية في بعض الأفكار مثل الوحدانية، وهي أساس المسيحية ولم تكن غريبة على المصريين فقد كانوا أول الشعوب التي آمنت بالوحدانية منذ عهد أخناتون (1383-1365 ق.م)، فضلاً عن إيمانهم بالحياة بعد الموت والحساب والعقاب في الحياة الأخرى.

الفكرة الثاني هي التثليث، وأشهر ثالوث عند قدماء المصريين كان إيزيس وأوزيريس وحورس، لذلك حين نادت المسيحية بفكرة التثليث لم يكن ذلك غريباً على ذهنية المصريين.

الفكرة الثالثة كانت الصليب، وصليب المسيحية يرمز للحياة يُقابله "عنخ" مفتاح الحياة عند قدماء المصريين.

ما شاع من قدرة المسيحيين على دفع الشياطين وشفاء المرضى وإحياء الموتى جذب كذلك انتباه المصريين للعقيدة الجديدة، وهيأت أذهانهم لاعتناق المسيحية، فضلاً عن نظرة المصريين للعقيدة الجديدة باعتبارها فرصة للتعبير عن معارضتهم للسلطات الرومانية بعد أن فقدت مصر استقلالها، وغدت ولاية تابعة لروما ثم لبيزنطة.

ما ساعد كذلك على دخول المسيحية إلى مصر، وتحديداً عن طريق الإسكندرية، هو أن الأخيرة في تلك الفترة كانت تُعتبر من أعظم موانئ العالم ومدنها، وكانت منارة ثقافية بسبب مدرستها الشهيرة، ومركزاً للعلم والفلسفة بسبب مكتبتها التي كانت تحوي مئات الألوف من الكتب والمخطوطات النفيسة.

في الإسكندرية، شقّ القديس مرقس طريقه بسهولة للتبشير بالمسيحية، فهو ابن المنطقة نفسها، إذ وُلد من أبوين يهوديين في مدينة القيروان، وهي إحدى المدن الخمس الغربية في ليبيا.

وكان مرقس منذ ولادته ينعم بما كان لأسرته من ثروة كبيرة وأراضٍ زراعية شاسعة، ولذلك تمكن أبواه من أن يُهيئا له أفضل سبل التعليم والثقافة، فأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، كما أتقن اللغة العبرية وتعمّق في دراسة كتب التوراة والناموس اليهودي، غير أن بعض قبائل البربر هجمت على أملاك أسرة مرقس في القيروان، فنزحت إلى فلسطين. 

الوحدانية، التثليث، الصليب، ما شاع من قدرة المسيحيين على إحياء الموتى، معارضة السلطات الرومانية بعد أن فقدت مصر استقلالها... عوامل جذبت انتباه المصريين إلى المسيحية، فكيف دخل الدين الجديد إلى مصر ولماذا تحولت الإسكندرية إلى مركز له؟

وعندما جاء مرقس ليكرز بالمسيح في مصر، عَبَر على بلاد مصرية كثيرة عامرة بالسكان، لكنه فضّل الإسكندرية العاصمة ليبدأ منها بشارته، وكانت صرخة أنيانوس - أول من بشّره مرقس بالمسيحية - "يا الله الواحد" واسطة لكرازة لكل المدينة عن الإله الواحد.

ثم انتشرت المسيحية في ربوع مصر، وكان إقليم مصر في القرن الأول ميلادي ينتهي حيث يبدأ إقليم "قمرين" الذي يقع في ليبيا الآن، حيث المدن الخمس الغربية الواقعة شمالي ليبيا، وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية متصلاً، ولذلك بعد أن صارت الخمس مدن ضمن الحدود الليبية أصبح لقب البابا هو بابا الإسكندرية والخمس مدن الغربية.

المدن الخمس الغربية

الأولى هي القيروان، وهي أول وأقدم هذه المدن جميعاً، أنشأها الإغريق عام 631 قبل الميلاد في الجبل الأخضر بعيدة عن الساحل، لتكون في مأمن من خطر قراصنة البحار، وهي غير القيروان الموجودة في تونس وينطق اسمها أيضاً قورنية وقرنية وقريني، ولعل منها سمعان القيرواني الذي "حمل صليب المسيح" (مر 15: 21)، وهى تُسمى حالياً الشحات أو عين شاهات.

الثانية هي برنيق، وتدعى أيضاً برنيقة أو برنيقة القرينية، واسمها القديم هسبريس أو هسبريديس، وفي عهد البطالمة بدّلوا اسمها إلى برنيق (وهو اسم زوجة بطلميوس الأول: برنيكي)، وتعرف حالياً باسم بني غازي.

الثالثة هي برقة (باركه)، وهي ثاني أو ثالث مدينة في القدم، وتقع في الداخل في الجبل الأخضر، وتسمى حالياً بالمرج، ولها ميناء قديمة تدعى بطولومايس.

الرابعة هي طوشير، وتدعى حالياً توكره أو طركرا، وقد أنشأها الإغريق على الساحل عام 510 قبل الميلاد، ثم دعيت باسم أرسينوى على اسم أم بطليموس الثالث.

أما الخامسة فهي أبولوني، وقد بُنيت على الساحل ربما لتكون ميناء لمدينة سيرين أو القيروان، وهي حالياً مرفأ أو مرسى سوسه، وقد نشأ في ما بعد ميناء آخر للقيروان هو درنة.

الحالة الفكرية وقت ظهور المسيحية

وصلت الإسكندرية إلى درجة عظيمة من الأهمية، حتى أصبحت تُعتبر بحق العاصمة الثقافية للعالم وقلب العالم الهليني النابض، وكانت مكتبتها تزخر بمن يفد إليها من علماء وفلاسفة وطلاب معرفة من كل العالم، يجلبون معهم علوم بلادهم وثقافاتها.

وازدحمت المدينة بأناس من شتى الأجناس والأديان والثقافات، وكان فيها المصريون بديانتهم المعروفة ومعابدهم المصرية، وإلى جانبهم عاش اليونان بلغتهم العالمية وفلسفاتهم، والرومان بأنظمتهم وقوانينهم وثقافتهم، وكان هناك اليهود الذين يمثلون عنصراً هاماً في المدينة ولهم فيها حي خاص ومعهم أجناس أخرى شرقية في المدينة لها أيضاً عباداتها وثقافاتها.

التقى كل هؤلاء في شوارع المدينة وأسواقها، وقامت مناقشات دينية وعقلية حامية، ودارت مناظرات بين العلماء في مكتبتها، فخلق هذا التنوع امتزاجاً فكرياً تولدت عنه أفكار وفلسفات ومذاهب جديدة، أسست لمدرسة الإسكندرية الشهيرة التي ساعدت المدينة لتحل مكان أثينا كمركز أدبي للعالم اليوناني.

الصراع بين المسيحية والفلسفة الوثنية

عندما ظهرت المسيحية في الإسكندرية كان عليها أن تتصارع مع كل الأديان والفلسفات والمذاهب، الوثنية منها واليهودية.

هكذا حدثت مفارقة عجيبة في المدينة، فاتخذ كل من الفريقين أسلحة الآخر ليحاربه بها، إذ درس المسيحيون الفلسفة للرد على الفلاسفة، ودرس الوثنيون الكتاب المقدس لمهاجمة المسيحيين.

واتهم الوثنيون المسيحيين لدى الحكام باتهامات كثيرة في تعاليمهم وعبادتهم وأخلاقهم، وأدى هذا الصراع إلى ظهور فئة من العلماء دافعوا عن المسيحية مثل أثيناغورس، أحد أساتذة المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية.

بعدما انتشرت المسيحية انتشاراً سريعاً وازداد عدد المنضمين إليها، أصبح من الضروري أن يوضع التعليم المسيحي على أسس منهجية منظمة لإعطاء هؤلاء المتحولين إلى المسيحية ما يؤهلهم للمعمودية والانضمام إلى الكنيسة، وكذلك لتثقيف المؤمنين أنفسهم بمبادیء دینهم وتعاليمه، وتزويد الراغبين منهم بما يريدونه من الدراسات والتعمق في فهم الفلسفة واللاهوت.

وهكذا تأسست مدرسة الاسكندرية للتعليم المسيحي، ولكن لم تكن هذه الأسباب الإيجابية فقط هي الداعية لإنشائها، إنما كان هناك سبب آخر لا يقل أهمية، ذلك أن العالم الوثني كان يقف للمسيحية بالمرصاد، يحاول بكل قواه وبكافة الطرق العلمية والعقلية والنقدية أن يقضي على هذه الديانة الجديدة، وعليه واجهت الكنيسة هجمات فكرية شديدة من فلاسفة الوثنية ورجال السياسة فيها، وكان لا بد أن توجد مدرسة عليا تزود الكنيسة بقادة للفكر، وتقدم للمسيحيين المعرفة الكافية التي تمكنهم من الرد على خصومهم، سواء كان ذلك في مجادلات فردية أو جماعية.

وتأسست مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في منتصف القرن الأول الميلادي على يد مرقس الذي أدرك بثقافته العبرية واللاتينية واليونانية طبيعة الصراع الفكري وقتها، وكانت المدرسة سبباً في أن تصبح الإسكندرية مركزاً للفكر المسيحي.

بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسة لتعلیم الإیمان المسیحي، تقدّم دراسات تؤهل المسيحيين لنيل سر المعمودیة حسب المفهوم المسيحي، وفتحت أبوابها أمام الجمیع، یلتحق بها أناس من دیانات مختلفة وثقافات متباینة.

عُرفت المدرسة باهتمامها بالبحث العلمي، فلم یكن الأساتذة مجرد محاضرین یلقنون الطلبة ما یریدون، لكنهم بالأكثر كانوا یهتمون بتقدیم المشورة في البحث والتنقیب مع المناقشة المستمرة، كما امتازت المدرسة بعدم الفصل بین الدراسة والحیاة الإیمانیة، فكانت العبادة تمارس جنباً إلى جنب مع الدراسة، إذ یمارس المعلّمون وتلامیذهم الصلاة والصوم وحیاة النسك بغیة الدخول في طریق الكمال المسیحي.

مشاهير أساتذة مدرسة الإسكندرية  

اشتهرت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بالكثير من الفلاسفة. 

من هؤلاء، أثیناغوراس الفیلسوف، وكان شخصیة فلسفیة كبیرة، مولعاً بالبحث في أمر الدیانة المسیحیة كغیره من الفلاسفة الوثنيين طمعاً في كشف أخطائها وٕإظهار فسادها، ثم انجذب للإیمان بها، تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة اللاهوتیة حوالي عام 176، وهو أول فیلسوف يصبح مديراً للمدرسة دون أن یخلع عنه زي الفلاسفة.

يُذكر كذلك القدیس بنتینوس الذي ولد في الإسكندرية في أوائل القرن الثاني، وهناك اعتنق المسیحیة على ید أثیناغوراس، وكان فيلسوفاً رواقياً، وتولى رئاسة مدرسة الإسكندریة حوالي عام 181، ونال شهرة فائقة، وٕإلیه ینسب إدخال الفلسفة والعلوم إلى المدرسة لكسب الهراطقة والوثنیین المثقفین، وهو الذي فكر في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية، لكنه رأى كل الخطوط المصرية من هيروغليفية وهيراطيقية وديموطيقية صعبة الكتابة، فاستعار الأحرف اليونانية وأضاف إليها سبعة أحرف من الديموطيقية وكوّن منها جميعاً الأبجدية القبطية.

عندما ظهرت المسيحية في الإسكندرية كان عليها أن تتصارع مع كل الأديان والفلسفات والمذاهب... هكذا حدثت مفارقة عجيبة في المدينة، فاتخذ كل من الفريقين أسلحة الآخر ليحاربه بها، إذ درس المسيحيون الفلسفة للرد على الفلاسفة، ودرس الوثنيون الكتاب المقدس لمهاجمة المسيحيين

وهناك أيضاً إكلیمنضس السكندري، وهو من أبرز تلاميذ بنتينوس. وُلد حوالي عام 150 من أبوين وثنيين، وكان قبل تحوله إلى المسيحية فیلسوفاً وثنياً درس فلسفة اليونان ثم جال يطلب العلم في بلاد اليونان وإيطاليا وفلسطين ومصر وبلاد الشرق الأدنى، وتتلمذ على ید القدیس بنتینوس، وصار مساعداً له.

سُیّم كاهناً في الإسكندریة، وبعدما سافر أستاذه بنتینوس إلى الهند عام 190 تسلم رئاسة المدرسة إلى حین عودته، وهو واضع السياسة التعليمية الجريئة التي سارت عليها مدرسة الإسكندرية المسيحية في كافة عصورها، حدد من خلالها العلاقة بين الفلسفة والدين، وهو المؤسس الحقيقي لعلم اللاهوت المسيحي.

إلى جانب هؤلاء، العلامة أوریجینوس، ویُعتبر من أبرز الشخصيات التي ظهرت في تاريخ الكنيسة المسيحية. وُلد في الإسكندرية من أبوين مصرين مسيحيين حوالي عام 185، درس الفلسفة على يد أستاذه إكلیمنضس، واستطاع في سن مبكرة أن يستوعب قدراً ضخماً من المعلومات فألمّ بالفلسفة والمنطق والهندسة والرياضيات والموسيقى والبلاغة، وجمع بين معلومات المدرستين المسيحية والوثنية.

وإذ تُركت مدرسة الإسكندرية بلا معلّم بسبب الاضطهاد، ورحیل القدیس إكلیمنضس، عینه البابا دیمتریوس رئیساً للمدرسة حوالي عام 203، وهو بعد في الثامنة عشر من عمره. وقد بلغت مدرسة الإسكندریة في عهده أوج عظمتها، لا سيما أنه وضع علم اللاهوت المسيحي على أسس منظمة.

القدیس دیدیموس الضریر من بين هؤلاء كذلك. وُلد في الإسكندرية عام 313، وفقد بصره في الرابعة من عمره، فلم يتعلم القراءة في مدرسة، وإنما بسبب ولَعِه بالتعلم اخترع الحروف البارزة بالنحت ليقرأها بإصبعه، وبهذا سبق بخمسة عشر قرناً في استخدام الحروف البارزة.

ورغم أنه فقد بصره صبیاً، إلا أنه تمكن من النبوغ في نواحي المعرفة العدیدة، مثل الفلك والحساب والهندسة والموسیقى، ودرس النظریات الفلسفیة المختلفة، وحفظ الكتاب المقدس والتعالیم الكنسیة عن ظهر قلب. تولى رئاسة مدرسة الإسكندریة خلفاً للقديس مقاریوس.

العلاقة بين المدرستين الوثنية والمسيحية

كانت المدرسة الوثنية قد بلغت ذروتها في العلوم والفلسفة في القرون الأولى للمسيحية، ولم يكن هناك أية مدرسة في العالم القديم تعادلها كمركز للدراسات الطبيعية والعلمية في الطب والتشريع والرياضيات والفلك والجغرافيا.

وإذا كانت أثينا قد تميزت بدراسة الفلسفة، فإن مدرسة الإسكندرية الوثنية درّست كل هذه الفلسفات، حتى أنها أنجبت الأفلاطونية الحديثة، وتزعمت الغنوصية، ونشرت هاتين الفلسفتين في أرجاء العالم. لهذا كله، كانت المدرسة الوثنية القوية منافسة خطيرة للمدرسة المسيحية الناشئة التي كانت تُمثل أعلى مجهود للمسيحيين في نزاعهم الفكري مع الوثنية.

مع ذلك، عاشت المدرستان جنباً إلى جنب، كل منهما كان لها طابعها الجامعي وهدفها الخاص، وكانتا كمرآة تعكس الحالة الثقافية في الإسكندرية وقتذاك، وقد أثرت كل منهما في الأخرى، وكانت المنافسة الجبارة بين المدرستين ذا أثر فعال في نهضة وازدهار العلوم والفلسفة واللاهوت في تلك القرون الأولى.

المقال على رصيف22

المراجع:

  • الراهب القس أثناسيوس المقاري، الكنائس الشرقية وأوطانها الجزء الثاني كنيسة مصر، الجزء الثاني، القاهرة، 2007.
  • آلان ك. بومان، مصر ما بعد الفراعنة: من الإسكندر إلى الفتح العربي، ترجمة: السيد جاد، السيد رشدي، رضا رسلان، الإسكندرية، 2013.
  • د. آمال محمد الروبي، مظاهر الحياه في مصر في العصر الروماني اجتماعيا واقتصاديا وإداريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975.
  • القمص تادرس يعقوب ملطي، آباء مدرسة الإسكندرية الأولون، 1980.
  • د. جوزيف نسيم يوسف، مجتمع الإسكندرية وانتشار المسيحية، مجتمع الإسكندرية عبر اللعصور، مطبعة جامعة الإسكندرية، 1973.
  • روجر س. باجنال، مصر فى اواخر العصور القديمة، ترجمة: السيد جاد، عبداللطيف فايز، 1993.
  • د. محمد محمد مرسي الشيخ، معالم تاريخ مصر البيزنطية.
  • مراد كامل، حضارة مصر فى العصر القبطى، القاهرة، مطبعة دار العالم العربي.
  • د. مصطفى العبادى، مصر من الإسكندر الاكبر إلى الفتح الإسلامي، الإسكندرية، مكتبة الأنجلو المصرية، 1999.
  • ه. أيدرس بل، مصر من الاسكندر حتى الفتح العربى، نقله إلى العربية وأضاف إليه: د. عبداللطيف أحمد علي، بيروت، دار النهضة العربية، 1973.