Monday, September 22, 2014

أين ذهب جمهور أم كلثوم






بينما كنت أتجول بلا هدف بين قنوات التليفزيون، توقفت أمام أحد البرامج الحوارية التي تعتمد على استضافة طرفي نقيض في قضية ما، ورغم أن هذا في حد ذاته لم يعد مثيرا للاهتمام،فإن الذي أغراني بالتوقف، أن أحد طرفي النقاش شابان ممن يتبعان موضة الشعر الطويل المُضفّر، والطرف الآخر سيّدة محجّبة، حتى يكون كل طرف مضادا للآخر في الاتجاه مساويًا له في القوة، وبالطبع كان شكل هذين الشابين هو موضوع الحلقة، حيث كانت السيدة المحجبة تقوم بدور المجتمع المحافظ الذي يوبّخ هذا النوع من الشباب على هيئتهم الغريبة، وتخلّيهم عن تقاليد المجتمع، وصولا لاتهامهما بعدم الانتماءلمصر، لأنهما لا يتبعان شكلنا المتعارف عليه، وأشارت كمن لديه معلومات مؤكدة أن هناك من يتعمد الدفع بهؤلاء الشباب لتخريب المجتمع وتغريبه، بينا راح الشاب يؤكد أنه لا يتبع أحدًا، ولم تدفعه جهة ما، وكل ما فعله هو أن أعجبته صورة فقلّدها، ولم يشعر بتعارض بين هذا الشكل وانتمائه لبلده.

أثار توبيخ السيدة العنيف للشباب في ذهني، عدّة تساؤلات: ما"شكلنا" المتعارف عليه؟ هل لنا شكل واحد؟ هل لنا شكل ثابت؟

بالبحث والتأمل في "شكلنا"، وجدتني أعود لحفلات أم كلثوم وأتأمل جمهورها، باعتباره نموذجًا لما كنّا عليه ذات يوم، صحيح أن جمهور تلك الحفلات كان من الطبقة البرجوازية أو الوسطى، لكن لا مانع من أن نقارنه أيضا بنظيره في أيامنا الآن، لنتساءل أين ذهب شكلنا هذا؟ ولماذا حين بدأ التحول في الحدوث، لم يظهر من يقاوم، مثل تلك السيدة التي وبّخت الشابين؟ ألم يكن شكلنا وقتها متعارفا عليه أيضا؟ بحيث يصبح تغييره تخليا عن تقاليد المجتمع؟ هل كان هناك من يدفع بتغيير الشكل بهدف تغيير الهوية والانتماء، كما اتهمت السيدة الشابين؟ وما موقفها من الجماعات التي كانت "تدفع" و"تموّل" بهدف تغريب كل شيء في مصر؟ أين كانت التقاليد والعادات المصرية؟ وفي تأكيدها أننا مجتمع محافظ، فتحت تساؤلات أكثر بخصوص هل نحن حقا كذلك؟ بل السؤال الأوقع هل صرنا أكثر "محافظة" والتزاما من جمهور أم كلثوم السافر؟ أم أن كل شيء تدهور، لأننا بذلنا جهدا كبيرا في الاهتمام بالشكل ولم نلتفت للجوهر أو "القيمة" طوال عقود مضت ولن تعود. وفي المقابل ظللنا نردّد بلا أي مراجعة، أننا مجتمع محافظ حتى صارت واحدة من أهم الأكاذيب التي صدّقناها وغرقنا فيها، لتصبح هي المدخل الأهم لكل جرائم الوصاية على الآخر المختلف.

طعنت السيدة الشاب في انتمائه، لمجرّد أنه غيّر شكله لهيئة غريبة، قد يملّ منها، ويعود كما كان، ماذا إذن عن الفساد المستشري الذي لا يملَ صاحبه منه؟، فلا شكّ أن الكثيرين منا وقعوا ضحية موظف فاسد أو مُرتشٍ، كنا نغضب ونحزن ونتألم ونتّهم هؤلاء بالفساد، لكن لم يحدث أن اتّهمنا الموظف المُرتشي بعدم الانتماء، أي إن الفساد ليس معيارًا لقياس الانتماء في ثقافتنا، إنما تغيير "تسريحة الشعر" هو المعيار الأهم الذي لا يقبل التفاوض.

حين دعا قاسم أمين لتحرير المرأة، حصر البعض دعوته في مجرد تغيير الشكل والهيئة، حتى أن طلعت حرب نفسه هاجمه قائلا "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا"، ورغم كونه اقتصاديا عظيما تفخر به مصر، إلا أنه في هذا الأمر كان يقوم بنفس دور السيدة سالفة الذكر، كما اتهمه مصطفى كامل أيضا بنفس التهمة وربط بين أفكاره والاستعمار الإنجليزي، بينما ناصره الإمام محمد عبده وسعد زغلولوأحمد لطفي السيد، حيث كان يدعو دائما أن "تربية المرأة هي أساس كل شيء، وتؤدي لإقامة المجتمع المصري الصالح وتخرج أجيالا صالحة من البنين والبنات"، وكان يكتب عن "العلل الاجتماعية في مصر" فقد كان مهموما ومهتما بالصلاح الاجتماعي، ويسعى بكل جهد لتحرير المجتمع المصري.

ثم جاءت نبوية موسى بعده لتكون بمثابة التطبيق العملي لأفكاره، فكانت إحدى رائدات التعليم والعمل الاجتماعي، واهتمت بنشر تعليم الفتيات، وأسست مدرسة ابتدائية حرة للبنات في الإسكندرية تولت إدارتها، وكان يدعمها أيضا أحمد لطفي السيد رائد التنوير في عصره.

وبعدهما تأتي درية شفيق، التي ينسب لها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في دستور 1956، وكأنهم سلسلة متتابعة متناسقة يكملون بعضهم بعضا، حيث يحرر قاسم أمين المرأة لتعلمها نبوية موسى ثم تعطيها درية شفيق حق الانتخاب والترشح.

أين نحن الآن من هذا التطور والتكامل والتفاعل بين أجيال كانت مهتمة بجوهر المجتمع، ومهمومة بعلله، انتجت بكل تفاعلاتها "جمهور أم كلثوم"، من أجيال لاحقة تفاعلت وانتجت مجتمعا لا داعي لوصفه فنحن جميعا نعيشه.

شمعي أسعد
سبتمبر 2014

 المقال على دوت مصر

Sunday, September 14, 2014

اختبار حمل داعش

تأملتُ بكثير من الفضول ملامح الشاب إسلام يكن، خريج "الليسيه" سابقاً والمجاهد في صفوف داعش حالياً، وتعجبت كما تعجب الجميع من غياب أية علامة تقول إننا أمام إرهابي محتمل، وكنت قد كتبت في2010 على خلفية أحداث نجع حمادي التي وقعت ليلة عيد الميلاد، مقالاً بعنوان "عزيزي الإرهابي القديم.. افتقدك"، تحدثت فيه عن أن الإرهابي الذي ملأ فترة الثمانينات والتسعينات ضجيجا ودماءً، لم يعد يظهر بصورته التقليدية التي كنا نراه بها، حين كان يرتدي جلبابا أبيض قصيرا ولحية طويلة ويده تحمل سلاحا آليا، بل أصبح الإرهابي الآن شخصا عادياً، قد يكون جارك أو زميلك القديم في المدرسة، أو الشخص الجالس بجوارك في القطار.

وحين ذهبت لعمل تحقيق صحفي لمجلة روز اليوسف عن أحداث تهجير الأقباط في العامرية بالإسكندرية، كان أول ما فعلته هناك هو تأمل ملامح كل من قابلتهم وكل من رأيتهم في شوارع القرية، وبالتأكيد منهم من شارك في حرق المنازل، كنت أبحث عن أية ملامح إجرامية تضع ما حدث في سياق مقبول كسلوك إجرامي، ولكن خاب ظني فلم أجد سوى أشخاص عاديين وملامح عادية، تحولت وقت الأزمة لشخصيات إرهابية، ثم عادت مرة أخرى لحالتها العادية لتمارس حياتها الطبيعية في التعامل اليومي العادي.


وضع عالم الجريمة الإيطالي الشهير "تشيزري لومبروزو" نظريته الشهيرة"الرجل المجرم"، وهو بالمناسبة أول من استخدم جهاز كشف الكذب عام‏ 1895، الذي تقوم فكرته على تسجيل التغيرات التي تطرأ على أجهزة الجسم إذا ما عمد الإنسان إلى الكذب، مثل التغيير في سرعة نبضات القلب واختلاف سرعة التنفس وضغط الدم. يذهب لومبروزو في نظريته إلى أن المجرم إنسان شاذ من الناحيتين العضوية والنفسية، فمن الناحية العضوية يقرر لومبروزو أن المجرم يتميز بصفات وملامح جسمانية تختلف عن الشخص الطبيعي، مثل عدم انتظام شكل الجمجمة، وضخامة في الفكين، وبروز في عظم الخدين، وشذوذ في تركيب الأسنان، وفرطحة أو اعوجاج في الأنف، وغزارة في الشعر، مع عدة صفات أخرى. أما من الناحية النفسية فقد لاحظ لومبروزو ضعف إحساس المجرمين بالألم، كما لاحظ تميزهم بالفظاظة وغلظة القلب وقلة أو انعدام الشعور بالخجل، مفسرا بذلك إقدامهم على إتيان جرائم الدم.


وبالطبع لاقت النظرية وقتها هجوماً عنيفاً، وكان يستجيب للنقد بتطوير نظريته، حتى أصدر منها خمس نسخ في عدة مجلدات، وظلت محل هجوم وإن اعترف النقاد ببعض المزايا، ولكن إذا طبقنا نظرية "الرجل المجرم" على إسلام يكن، وغيره من كثيرين انضموا لصفوف داعش، لن نراها صحيحة أبداً وربما تصح في الناحية النفسية، فمن الناحية العضوية كان"يكن" شاباً عادياً يحمل نفس الملامح البسيطة للمصريين، ولا يحمل صفات "الرجل المجرم"، فلا شكل جمجمته غير منتظم ولا أطرافه أو أصابعه بها طول ملحوظ، ولا توجد ضخامة في فكيه، ولا "حواجب غزيرة تميل للالتقاء فوق الأنف"، هو مجرد شاب عادي، فما الذي جعله إرهابيا، وأين يكمن جين التحول؟ وهل بيننا كثيرون يحملون الفكر "الداعشي"؟ وكيف تعرف إن كنت أنت شخصيا منهم أم لا؟ وإن كانت نظريات لومبروزو لا تصلح للكشف عن الـ"داعش" الذي بداخلك، فهل هناك ما يمكن أن نسميه "اختبار حمل داعش"؟ 


كلنا يعرف أن مجتمعنا به الكثير من الأفكار والسلوكيات السلبية التي تحمل البذور الداعشية، مثل قمع المرأة، العداء المستتر والمعلن أحيانا بين الطبقات الغنية والفقيرة، ثقافة الكراهية تجاه الآخر، "ثقافة الزحام" التي ينتج عنها الكثير من جرائم العنف، وبشكل عام "السلوك العنيف" في كثير من الممارسات اليومية، وفي السنوات القليلة بعد ثورة 25 يناير، وفي ظل حالة استقطاب وقع فيها الشعب المصري بأكمله، ظهرت كثير من الأفكار الداعشية بيننا جميعا، فكلنا كنا نريد نفي كل منتمي للمعسكر الآخر، ولا نتعاطف معه إن قُتل أو سُحل أو تم تعذيبه، وكنا نُسكت ضمائرنا بعبارات مثل "إيه اللي وداه هناك؟"، وحتى قبل الثورة كان بيننا من ينادون بحقوق الإنسان وحقوق المرأة ولكنهم إن تعرضوا لسرقة فلا مانع من سحل الخادمة في قسم الشرطة حتى تعترف!.


أين ترقد الخلايا الإرهابية النائمة داخل كل شخص فينا؟، وكيف تتأكد إن كنت تحمل هذا الفيروس الداعشي أم لا؟ هو اختبار "حمل" بسيط، فقط راجع كل ما آمنت به من قناعات، وما مارسته من سلوك، واستحضر صورة إسلام يكن أيام البراءة ومدارس الليسيه، ثم قارنها بصورته حاملا رؤوس ضحاياه في سوريا، والعب اللعبة القديمة في استخراج أوجه الشبه ليس بين الصورتين بل بينك وبينه.


شمعي أسعد
سبتمبر 2014



المقال على دوت مصر