Wednesday, October 08, 2014

أنت تكذب يا لينكولن

كان ابراهام لينكولن، الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية لمدة خمس سنوات فقط في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، يعمل بالمحاماة في بداية حياته، وجاءه ذات مرة أحد الأشخاص يطلب منه الدفاع عنه في إحدى القضايا، وسأله لينكولن إن كان مذنبا حقا، فأخبره الرجل بأنه بالفعل كذلك ولكنه يثق فى مهاراته وقدرته على تبرئته أمام القاضي، فرد لينكولن أنه يستطيع فعلا ذلك لكنه لن يفعل، تعجب الرجل وسأله لماذا؟ فرد لينكولن: لأنني سأكون مدركا طوال الوقت وأنا أدافع عنك أنني أكذب، وسأظل أردد بيني وبين نفسي أثناء المرافعة "أنت تكذب يا لينكولن" وقد أخطيء مرة وأقولها بصوت عالٍ.

لم أهتم بعد قراءة هذه القصة بدقتها ولكنني عشت طويلا مع مغزاها، وصرت استخدم مقولة لينكولن التي قرأتها منذ سنوات طويلة، بنفس الطريقة التي استخدم بها الأمثلة الشعبية، أرددها كما هي كلما أردت فحص النية الحقيقية في أمر ما، لا أتحدث على المستوى الشخصي، بل عن "الكذب الجمعي" والضلالات الاجتماعية التي غرق فيها مجتمعنا بشدة، فكم أكاذيب نرددها بضمير مرتاح ونعرف في قرارة أنفسنا أننا نكذب، ومع ذلك كنا نستمر في ترديدها، ونقبل ترويجها، ولم يظهر فينا بعد من يقف هاتفا مستخدما المثل الجديد: "أنت تكذب يا لينكولن".

تحدث قاسم أمين كثيرا عن "علل المجتمع المصري"، وإذا أردنا أن يصير مجتمعنا أفضل فيجب ألا نكف عن الحديث عن كل العلل التي تعطل تقدمنا، والكذب الجمعي هو أحد أهم هذه العلل، أتحدث عن الأكاذيب التي لا ندرك أننا نمارسها، وهي في نفس الوقت تعطلنا عن التقدم لأن لها مفعول "البنج"، فحين نردد باستمرار أننا أصحاب حضارة سبع آلاف سنة فنحن نعطي لأنفسنا "حقنة بنج" بهدف أن نرتاح من الإحساس بالعجز أمام التقدم الهائل حولنا، ولا يهم ماذا نقدم للبشرية الآن مادمنا قدمنا ما يجب أن نقدمه من آلاف السنين، فكيف يتطور مجتمع يظل طوال الوقت معتقدا أنه أفضل شعوب العالم، وأن مصر "أم الدنيا" دون أن تُقر "الدنيا" نفسها أن مصر أمها، وأننا شعب طيب، وأطفالنا هم أذكى أطفال العالم، فضلا عن ترديدنا المستمر لفكرة أننا مجتمع محافظ، رغم تكذيب محركات البحث التي نصول ونجول فيها بحثا عن المواقع الجنسية، وقد أخبرتنا بعض الإحصائيات أننا أكثر شعوب العالم فى ذلك، فضلا عن ظاهرة التحرش التي زادت واستفحلت حتى أصبح "المجتمع المحافظ" عاجزا أمامها.

نحن نكذب ونخدع أنفسنا في كل مرة نردد فيها أننا شعب متدين بالفطرة، ونظل نصدق ذلك حتى ونحن ندفع "رشوة" لموظف، أو نلقي القمامة بضمير مرتاح بجوار سور مدرسة مكتوب عليه "النظافة من الإيمان"، وعلى نفس السور أيضا سنقرأ "مدرستي جميلة نظيفة متطورة" بينما يدرك كل تلميذ أنها ليست كذلك فيعتاد بدوره الأكاذيب الاجتماعية، الأمر الذي يؤثر سلبا على "قيم أخلاقية" لأجيال تشكل هي أيضا مستقبل المجتمع وفق ما تعلمته منه واعتادت عليه، لتسلمها فيما بعد لأجيال لاحقة، في عملية "تدوير" منتظمة لمباديء زائفة.

والأسوأ من أن نكذب هو أن نصنع "الرموز الكاذبة"، وحينما قامت ثورة 25 يناير كان من أهم نتائجها هو سقوط كثير من الرموز التي كانت نماذج وقدوة في نظر ملايين من المصريين، لا أقصد من قامت ضدهم الثورة بل من قاموا بالثورة أنفسهم، فأحد أهم أسباب كبوة الثورة هو استغلال المدعين والمزيفين لها وتصدرهم المشهد والميدان، وأهم حسنات الثورة أيضا هو فرزها لهؤلاء تباعا، فكل يوم نرى نجما يسقط وكذبة تنكشف، ولا عيب فى ذلك سوى أنه يحدث دائما بعد كارثة، ولو كنا نملك موهبة الكشف المبكر عن الكذب وفرز الشخصيات الزائفة، لتجنبنا كثيرا من الأزمات وربما تجنبنا فشل الثورة نفسها، هذا على افتراض أننا حين قمنا بالثورة رافعين شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية"، كنا صادقين ومتسقين مع أنفسنا ونؤمن فعلا بقيمة الحرية والعدالة الاجتماعية، فقد رأيت بنفسي من ملأوا الدنيا ضجيجا عن الحقوق والحريات، وكانوا هم أنفسهم أول من فشلوا في تحمل الرأي الآخر، وتعاملوا بحدة مع المختلفين معهم باستعلاء لا يليق بمن يتحدثون خلف الشاشات عن حرية الرأي وحق الاختلاف، وكم توقعت أو تخيلت بينما هم مستغرقون في حواراتهم الإعلامية سواء عن الحقوق أو المباديء أو ادعاء النقاء الثوري، أن يخطيء أحدهم ولو مرة فيقول " أنت تكذب يا لينكولن".


شمعي أسعد
6 أكتوبر 2014

المقال على دوت مصر



No comments: