في كل مرة يردمون جزءا من بحر الإسكندرية لتحويله إلى مجمع كافيهات أدرك أننا خسرنا شيئا صعب تعويضه.. وهو نفس ما أشعر به كلما هدموا قصرا لتحويله إلى برج سكني.. أو شاطئا له طابعه الخاص ليصبح مشروع منتجع سياحي.. أشعر كل مرة أن الإسكندرية تفقد بعضا من ملامحها.. وجزءا من روحها.. ويتجلى هذا الشعور إذا طالت الخسارة شخصا عزيزا على قلب الإسكندرية.. وأحد مفكريها.. وأهم رموزها.. واليوم.. اليوم تحديدا حدثت أكبر الخسائر.. برحيل الدكتور رفيق خليل.. الطبيب والجراح.. الشاعر والفنان.. المفكر والفيلسوف.. أستاذ الجراحة بكلية الطب ورئيس اتيليه الإسكندرية.. كان نقيبا سابقا للأطباء.. ورئيسا سابقا لقسم الجراحة.. وصديقا دائما لكل من عرفه.
كلنا نحب الدكتور مجدي يعقوب ليس فقط لمهارته فى علاج القلوب.. لكن لأنه هو نفسه يحمل قلبا جميلا.. ونحن فى الإسكندرية كان لدينا مجدي يعقوب خاصتنا.. هو الدكتور رفيق خليل.. الذي كان أيضا يحمل قلبا جميلا كقلب طفل.. ووجها باسما كمحب يلقى حبيبا غائبا.. كان منسقا رائعا في ندواته الثقافية.. رقيقا في حواراته.. صديقا في عيادته.. ووحشا كاسرا في غرفة العمليات.. وهو أب عطوف لمريضه بمجرد أن يفرغ من إحدى عملياته.
هذا الطبيب الماهر.. أستاذ الجراحة بكلية الطب كانت قيمة الكشف في عيادته ٥٠ جنيها فقط.. وحين سالته كيف يكون هذا؟ اجابنى أن حتى ال٥٠ جنيها هناك من لا يستطيع دفعها وحين أدرك ذلك احاول ردها دون أن اجرح كرامة المريض.. وقال لي أيضا آن هذا المريض إذا احتاج إجراء جراحة أطلب منه نصف قيمة التكلفة وأجعله يعتقد أن هذا هو كل التكلفة.. مضحيا بأتعابي.. وما يدفعه يكون فقط تكلفة المستشفى والتخدير والمساعدين.. ولا اجعله يعرف انني لم آخذ شيئا.. كان طبيبا للغلابة أيضا.. وقال لي إن المريض يجب أن يشعر أن الطبيب صديقه.
عيادة الدكتور رفيق لم تكن مجرد عيادة.. فهي مكتبة ثقافية.. بها كتب الطب وكتب الثقافة.. بها لوحات فنية مهداة من فنانين.. بها قصائد معلقة كتبت فى حب دكتور رفيق.. وفي عيادته تسمع أثناء جلوسك موسيقى هادئة قد لا تحتاج بعدها إلى طبيب.
دكتور رفيق كان محبا للفنون وكان من مؤسسي معهد كونسفتوار الإسكندرية الأوائل.. وأول من أدخل مناهج تعليم الموسيقى الدولية وتحديدا مناهج وامتحانات رويال سكول الدولية إلى مصر.. وهذا أقل القليل فهناك ماهو أكثر ويستطيع أن يخبرنا به من كان أكثر قربا منه.
قبل معرفتي به منذ أكتر من خمسة عشر عاما.. وأثناء حضوري أمسية شعرية كان يديرها في متحف الفنون بمكتبة البلدية.. وكنت قد أتيت الندوة بعد بدايتها.. فوجئت به بعد عدة فقرات لبعض الشعراء يقدمني كشاعر لالقاء قصيدة.. وفوجئت بهذا لأنني لم اتوقع أن يتذكرني حيث كنت قد ألقيت قصيدة فى ندوة سابقة كان يديرها الشاعر الجميل الراحل صبري ابوعلم.. وفقط لمحني وقت دخولي.. كان موقفا بسيطا كاشفا لشخص استثنائي يعرف كيف يشجع حتى الهواة.
لم أرفق مع مكتوبي هذا صورة لي مع دكتور رفيق.. فقد اكتشفت أنني لم اهتم أبدا في كل مرة رأيته أن آخذ صورة معه.. فوجوده كان يبعث حالة سكينة وسلام.. يدرك ذلك كل من عرفه.. وهي أشياء لا يمكن تصويرها وحالة لا تستطيع رصدها بالكاميرات.
حين عرفت بالرحيل.. لم أتقبل الخبر ولا زلت.. وظللت أردد كلمات إحدى الأغنيات التي تقول.. "حظنا صعب وعنيد".. واخيرا.. أهداني دكتور رفيق ذات مرة رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" لأديب الإسكندرية الكبير إبراهيم عبدالمجيد.. الذي هو بدوره أصفه دائما أنه نجيب محفوظ الإسكندرية.. وتحكي الرواية عما تعرضت له الإسكندرية من قصف وتدمير جراء معارك العلمين في الحرب العالمية الثانية.. واستطبع الآن أن أخبر حبيب الإسكندرية الراحل دكتور رفيق.. أن الإسكندرية ستنام حتى إشعار آخر.. فوجودك كان أحد أسباب اليقظة.. وسنحتاج دورة حضارية كاملة حتى تمنحنا الأقدار شخصا آخر مثلك.
1 comment:
Thanks for sharing such great information with us. Your Post is very helpful and the information is reliable for new readers. Keep Thanks again for sharing such a useful post. heck, it out! https://luckycavapoopups.com
Post a Comment