بينما كنت أتجول بلا هدف بين قنوات
التليفزيون، توقفت أمام أحد البرامج الحوارية التي تعتمد على استضافة طرفي نقيض في
قضية ما، ورغم أن هذا في حد ذاته لم يعد مثيرا للاهتمام،فإن الذي أغراني بالتوقف،
أن أحد طرفي النقاش شابان ممن يتبعان موضة الشعر الطويل المُضفّر، والطرف الآخر سيّدة
محجّبة، حتى يكون كل طرف مضادا للآخر في الاتجاه مساويًا له في القوة، وبالطبع كان
شكل هذين الشابين هو موضوع الحلقة، حيث كانت السيدة المحجبة تقوم بدور المجتمع
المحافظ الذي يوبّخ هذا النوع من الشباب على هيئتهم الغريبة، وتخلّيهم عن تقاليد
المجتمع، وصولا لاتهامهما بعدم الانتماءلمصر، لأنهما لا يتبعان شكلنا المتعارف
عليه، وأشارت كمن لديه معلومات مؤكدة أن هناك من يتعمد الدفع بهؤلاء الشباب لتخريب
المجتمع وتغريبه، بينا راح الشاب يؤكد أنه لا يتبع أحدًا، ولم تدفعه جهة ما، وكل
ما فعله هو أن أعجبته صورة فقلّدها، ولم يشعر بتعارض بين هذا الشكل وانتمائه
لبلده.
أثار توبيخ السيدة العنيف للشباب في ذهني، عدّة
تساؤلات: ما"شكلنا" المتعارف عليه؟ هل لنا شكل واحد؟ هل لنا شكل ثابت؟
بالبحث والتأمل في "شكلنا"، وجدتني
أعود لحفلات أم كلثوم وأتأمل جمهورها، باعتباره نموذجًا لما كنّا عليه ذات يوم،
صحيح أن جمهور تلك الحفلات كان من الطبقة البرجوازية أو الوسطى، لكن لا مانع من أن نقارنه
أيضا بنظيره في أيامنا الآن، لنتساءل أين ذهب شكلنا هذا؟ ولماذا حين بدأ التحول في
الحدوث، لم يظهر من يقاوم، مثل تلك السيدة التي وبّخت الشابين؟ ألم يكن شكلنا
وقتها متعارفا عليه أيضا؟ بحيث يصبح تغييره تخليا عن تقاليد المجتمع؟ هل كان هناك
من يدفع بتغيير الشكل بهدف تغيير الهوية والانتماء، كما اتهمت السيدة الشابين؟ وما
موقفها من الجماعات التي كانت "تدفع" و"تموّل" بهدف تغريب كل شيء
في مصر؟ أين كانت التقاليد والعادات المصرية؟ وفي تأكيدها أننا مجتمع محافظ، فتحت
تساؤلات أكثر بخصوص هل نحن حقا كذلك؟ بل السؤال الأوقع هل صرنا أكثر
"محافظة" والتزاما من جمهور أم كلثوم السافر؟ أم أن كل شيء تدهور، لأننا
بذلنا جهدا كبيرا في الاهتمام بالشكل ولم نلتفت للجوهر أو "القيمة" طوال
عقود مضت ولن تعود. وفي المقابل ظللنا نردّد بلا أي مراجعة، أننا مجتمع محافظ حتى
صارت واحدة من أهم الأكاذيب التي صدّقناها وغرقنا فيها، لتصبح هي المدخل الأهم لكل
جرائم الوصاية على الآخر المختلف.
طعنت السيدة الشاب في انتمائه، لمجرّد أنه غيّر
شكله لهيئة غريبة، قد يملّ منها، ويعود كما كان، ماذا إذن عن الفساد المستشري الذي
لا يملَ صاحبه منه؟، فلا شكّ أن الكثيرين منا وقعوا ضحية موظف فاسد أو مُرتشٍ، كنا
نغضب ونحزن ونتألم ونتّهم هؤلاء بالفساد، لكن لم يحدث أن اتّهمنا الموظف المُرتشي
بعدم الانتماء، أي إن الفساد ليس معيارًا لقياس الانتماء في ثقافتنا، إنما تغيير
"تسريحة الشعر" هو المعيار الأهم الذي لا يقبل التفاوض.
حين دعا قاسم أمين لتحرير المرأة، حصر البعض
دعوته في مجرد تغيير الشكل والهيئة، حتى أن طلعت حرب نفسه هاجمه قائلا "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا"، ورغم كونه اقتصاديا
عظيما تفخر به مصر، إلا أنه في هذا الأمر كان يقوم بنفس دور السيدة سالفة الذكر،
كما اتهمه مصطفى كامل أيضا بنفس التهمة وربط بين أفكاره والاستعمار
الإنجليزي، بينما ناصره الإمام محمد عبده وسعد زغلولوأحمد لطفي السيد، حيث كان
يدعو دائما أن "تربية المرأة هي أساس كل شيء، وتؤدي لإقامة المجتمع المصري الصالح
وتخرج أجيالا صالحة من البنين والبنات"، وكان يكتب عن "العلل الاجتماعية
في مصر" فقد كان مهموما ومهتما بالصلاح الاجتماعي، ويسعى بكل جهد لتحرير
المجتمع المصري.
ثم جاءت نبوية موسى بعده لتكون بمثابة
التطبيق العملي لأفكاره، فكانت إحدى رائدات التعليم والعمل الاجتماعي، واهتمت بنشر
تعليم الفتيات، وأسست مدرسة ابتدائية حرة للبنات في الإسكندرية تولت إدارتها، وكان
يدعمها أيضا أحمد لطفي السيد رائد التنوير في عصره.
وبعدهما تأتي درية شفيق، التي ينسب لها الفضل
في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في دستور 1956، وكأنهم سلسلة
متتابعة متناسقة يكملون بعضهم بعضا، حيث يحرر قاسم أمين المرأة لتعلمها نبوية موسى
ثم تعطيها درية شفيق حق الانتخاب والترشح.
أين نحن الآن من هذا التطور والتكامل والتفاعل
بين أجيال كانت مهتمة بجوهر المجتمع، ومهمومة بعلله، انتجت بكل تفاعلاتها "جمهور
أم كلثوم"، من أجيال لاحقة تفاعلت وانتجت مجتمعا لا داعي لوصفه فنحن جميعا
نعيشه.
شمعي أسعد
سبتمبر 2014
المقال على دوت مصر