Wednesday, October 15, 2014

الحكاية حكاية شعب



قامت في مصر على مدار عقود طويلة مضت، كثير من الثورات وحركات التغيير، وفي كل مرة كانت تحدث حالة نشوةEuphoria ، حيث تصير الأحلام بوطن أفضل على وشك التحقق، فالحاكم المستبد سيذهب بلا رجعة وسينتهي الظلم، وستبدأ مصر عهدا جديدا ستحصد نتائجه الأجيال القادمة، بعدما دفع الجيل الذي قام بالثورة الضريبة كاملة من أجل مستقبل رائع لأبنائهم وأحفادهم. ثم بعد عدة عقود يأتي الأبناء والأحفاد يحلمون بالعدل والمساواة، وحين يفقدون الأمل في تحقيق ذلك يثورون على دول الظلم، من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، التي ستثور مجددا مطالبة بـ"عيش حرية عدالة اجتماعية". 

الثورات فى حياة الشعوب، بكل ما تحمله من مشاعر وانفعالات وتحولات، هي حالة استثنائية، الأصل فيها أن تحدث مرة واحدة في زمن قريب، ولو شبهناها بالأحداث التي نمر بها في حياتنا الشخصية، تكون كالثانوية العامة مثلا، أو الخدمة العسكرية، أو أي من مراحل التحول الاستثنائية التي يكون تكرارها صعبا وأكثر كلفة. فأن تتكرر الثورات في تاريخنا على فترات قريبة فهذا يعني أن هناك مشكلة لم تحل من البداية، ولهذا فالثورات عندنا كالولادة المتكررة، أي أن مصر تلد كثيرا، وفي كل مرة يكون المولود مشوها، مما يجعل الأم تنتظر وليدا جديدا وهكذا تظل "الثورة مستمرة". 

وإذا كان المنتج دائما به نفس المشكلة، والحاكم حين يصل للسلطة يتحول فيما بعد لحاكم مستبد، يصبح السؤال: هل نثور مرة أخرى فنصل لنفس النتيجة، أم نبحث أصل المشكلة ربما كانت في المادة الخام نفسها؟.

في كتاب "تراث العبيد في حكم مصر المعاصر.. دراسة في علم الاجتماع التاريخي" الصادر عن المكتب العربي للمعارف عام 1995، لكاتبه الذي رفض ذكر اسمه واكتفى بالحروف الأولى "دكتور: ع.ع"، يرصد ويحلل ويمسك بأصول كل ما شاب مجتمعنا من سلبيات أفسدت مواده الخام ففسد المنتج، ويرجع بذلك إلى عصر المماليك الطويل في تاريخ مصر، وكيف انتقل إلينا التراث المملوكي بسلوكياته وأخلاقياته التي تورث كما تورث الصفات الجسمانية، وتأثير ذلك في كل نواحي الحياة سواء اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا. 

فالمماليك، الذين تم جلبهم إلى مصر كرقيق أبيض، لم يتولوا الأعمال الشاقة كأي عبيد، إنما أسندت لهم أعمال الحكم والإدارة وكانوا محور بلاط الحاكم، وبذلك صاروا (الرقيق حاكم الأحرار)، ومن الطبيعي أن يتفنن العبد عندما يصبح حاكما في الإيقاع بين مجموعات العبيد التابعين له، ونتج عن ذلك تبلور مفاهيم "المهموز" و"الدبوس" و"الزنب جمع زنبة"، وكل أمير مملوكي يحرص أن يكون له المماليك (بتوعه)، وإذا وصل للعرش حرص على تكوين مجموعة أخرى تكون (بتاعته) لأنه لا يضمن ولاء المجموعة التي كان منها، وهكذا ظلت فكرة (البتاع) و(البتوع) تتوارث من جيل إلى جيل، فلابد للمدير العام أن يكون له (بتوع) غير بتوع المدير السابق، ولا يمارس المدير أو المحافظ أو أي مسؤول عمله سوى من خلال هذه المجموعات، لا من خلال القوانين واللوائح، وهذا يفسر سر عدم تفعيل القانون في أحوال كثيرة، حيث يحل عوضا عنها أوامر أو توجيهات أو إرادة القيادة أو مصالح البطانة المحيطة. 

والعلاقة المملوكية أساسها الخوف سواء خوفهم من الأمير أو خوف السلطان من تآمر المماليك، أو خوف المماليك من بعضهم البعض، ومن الطبيعي ألا يرحب المماليك القدامى بالمملوك الجديد المنضم إليهم خوفا أن ينال حظوة أميرهم، كما أنه سيشاركهم اللحوم والخبز فيقل نصيبهم، وهذا أحد الأسباب التي تفسر لماذا يتصارع المصريون في الخارج صراعا لا تشهده الجاليات الأخرى. كما أن مبدأ "الحسنة تخص والسيئة تعم" هو أيضا تراث مملوكي، فإذا تفوق جندي نال التكريم وحده بينما إذا أخطأ أحد الجنود فالكتيبة كلها تعاقب، الأمر الذي يفسر كرهنا للنجاح والناجحين. 

وحتى الصفات التى تبدو إيجابية مثل "الجدعنة"، ارتبطت فى تراث المماليك بالخروج على القوانين، فكان ينظر إلى اللصوص والخارجين على القانون بشيء من الإعجاب باعتبارهم (جدعان) و(عيال آخر شهامة)، وهذا يفسر التعاطف النسبي مع المجرمين والخارجين على القانون والدولة بعد كل مواجهة مسلحة، وكلها مفاهيم من بقايا تراث الرقيق الأبيض. 

وعلى المستوى الاقتصادي، اعتاد المملوكي أن يحصل على المال من جهد وتعب الآخرين من خلال (الريع) أو السمسرة والعمولة، أو "تجارة النفوذ" حيث يسعر البضاعة وفق نفوذه هو، بجانب ما يناله من بقشيش، وكانت أحد وسائلهم للوصول للسلطة هو تجويع السوق حتى تحدث الاضطرابات فينضم لهم الناس ضد المجموعة الأخرى الحاكمة. وكانوا يقومون بسلب المتاجر والأسواق وقت الفوضى وغياب السلطة، وقد رأينا بعد ثورة يناير واختفاء الشرطة من الشوارع كيف تم سلب ونهب الأسواق الكبيرة. 

كما يطرح الكتاب سؤالا آخر هو: لما لم تثمر حركة التغريب (الأخذ بأساليب الحضارة الغربية في الحكم والإدارة) النتائج نفسها التي أثمرتها في الغرب؟ ويجيب بأن تراث المماليك هو الذي يحول بين أن تكون التنظيمات المنقولة من الغرب إلى بلاد الشرق، لها المردود نفسه للتنظيمات في الغرب، وإلا فيم نفسر أن الفرد الشرقي إذا انتزع من تراثه المملوكي وعاش في الغرب، حقق تفوقا على أقرانه الأوربيين والأمريكيين؟ التفسير هو أنه انتزع تماما من تراث المماليك، وكان لديه هو شخصيا استعداد للحياة في بيئة جديدة خالية من هذا التراث. فالبذرة وحدها غير كافية، وإنما لابد من التربة الصالحة أيضا، والتربة في مصر بها حشائش عميقة الجذور من تراث الرقيق الأبيض (المماليك). 

إذن، وبعد هذا العرض السريع لأفكار الكتاب، نجد أن الثورة التي نحتاجها فعلا هي ثورة ذاتية، نتخلص فيها من الإرث المملوكي، حتى إذا ما تخلصنا من الحاكم المستبد سواء بالثورات أو بالقضاء والقدر، وفى نفس الوقت أصلحنا المادة الخام، يكون الحاكم الجديد نتاج بذرة أفضل، ويكون الشعب الجديد تربة أكثر خصوبة لانتاج مجتمع أفضل، فليست الحكاية في كل مرة حاكم فاسد، الحكاية حكاية شعب.


شمعي أسعد 
اكتوبر 2014


المقال على دوت مصر

المقال على موقع حركة مصر المدنية



Wednesday, October 08, 2014

أنت تكذب يا لينكولن

كان ابراهام لينكولن، الذي حكم الولايات المتحدة الأمريكية لمدة خمس سنوات فقط في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، يعمل بالمحاماة في بداية حياته، وجاءه ذات مرة أحد الأشخاص يطلب منه الدفاع عنه في إحدى القضايا، وسأله لينكولن إن كان مذنبا حقا، فأخبره الرجل بأنه بالفعل كذلك ولكنه يثق فى مهاراته وقدرته على تبرئته أمام القاضي، فرد لينكولن أنه يستطيع فعلا ذلك لكنه لن يفعل، تعجب الرجل وسأله لماذا؟ فرد لينكولن: لأنني سأكون مدركا طوال الوقت وأنا أدافع عنك أنني أكذب، وسأظل أردد بيني وبين نفسي أثناء المرافعة "أنت تكذب يا لينكولن" وقد أخطيء مرة وأقولها بصوت عالٍ.

لم أهتم بعد قراءة هذه القصة بدقتها ولكنني عشت طويلا مع مغزاها، وصرت استخدم مقولة لينكولن التي قرأتها منذ سنوات طويلة، بنفس الطريقة التي استخدم بها الأمثلة الشعبية، أرددها كما هي كلما أردت فحص النية الحقيقية في أمر ما، لا أتحدث على المستوى الشخصي، بل عن "الكذب الجمعي" والضلالات الاجتماعية التي غرق فيها مجتمعنا بشدة، فكم أكاذيب نرددها بضمير مرتاح ونعرف في قرارة أنفسنا أننا نكذب، ومع ذلك كنا نستمر في ترديدها، ونقبل ترويجها، ولم يظهر فينا بعد من يقف هاتفا مستخدما المثل الجديد: "أنت تكذب يا لينكولن".

تحدث قاسم أمين كثيرا عن "علل المجتمع المصري"، وإذا أردنا أن يصير مجتمعنا أفضل فيجب ألا نكف عن الحديث عن كل العلل التي تعطل تقدمنا، والكذب الجمعي هو أحد أهم هذه العلل، أتحدث عن الأكاذيب التي لا ندرك أننا نمارسها، وهي في نفس الوقت تعطلنا عن التقدم لأن لها مفعول "البنج"، فحين نردد باستمرار أننا أصحاب حضارة سبع آلاف سنة فنحن نعطي لأنفسنا "حقنة بنج" بهدف أن نرتاح من الإحساس بالعجز أمام التقدم الهائل حولنا، ولا يهم ماذا نقدم للبشرية الآن مادمنا قدمنا ما يجب أن نقدمه من آلاف السنين، فكيف يتطور مجتمع يظل طوال الوقت معتقدا أنه أفضل شعوب العالم، وأن مصر "أم الدنيا" دون أن تُقر "الدنيا" نفسها أن مصر أمها، وأننا شعب طيب، وأطفالنا هم أذكى أطفال العالم، فضلا عن ترديدنا المستمر لفكرة أننا مجتمع محافظ، رغم تكذيب محركات البحث التي نصول ونجول فيها بحثا عن المواقع الجنسية، وقد أخبرتنا بعض الإحصائيات أننا أكثر شعوب العالم فى ذلك، فضلا عن ظاهرة التحرش التي زادت واستفحلت حتى أصبح "المجتمع المحافظ" عاجزا أمامها.

نحن نكذب ونخدع أنفسنا في كل مرة نردد فيها أننا شعب متدين بالفطرة، ونظل نصدق ذلك حتى ونحن ندفع "رشوة" لموظف، أو نلقي القمامة بضمير مرتاح بجوار سور مدرسة مكتوب عليه "النظافة من الإيمان"، وعلى نفس السور أيضا سنقرأ "مدرستي جميلة نظيفة متطورة" بينما يدرك كل تلميذ أنها ليست كذلك فيعتاد بدوره الأكاذيب الاجتماعية، الأمر الذي يؤثر سلبا على "قيم أخلاقية" لأجيال تشكل هي أيضا مستقبل المجتمع وفق ما تعلمته منه واعتادت عليه، لتسلمها فيما بعد لأجيال لاحقة، في عملية "تدوير" منتظمة لمباديء زائفة.

والأسوأ من أن نكذب هو أن نصنع "الرموز الكاذبة"، وحينما قامت ثورة 25 يناير كان من أهم نتائجها هو سقوط كثير من الرموز التي كانت نماذج وقدوة في نظر ملايين من المصريين، لا أقصد من قامت ضدهم الثورة بل من قاموا بالثورة أنفسهم، فأحد أهم أسباب كبوة الثورة هو استغلال المدعين والمزيفين لها وتصدرهم المشهد والميدان، وأهم حسنات الثورة أيضا هو فرزها لهؤلاء تباعا، فكل يوم نرى نجما يسقط وكذبة تنكشف، ولا عيب فى ذلك سوى أنه يحدث دائما بعد كارثة، ولو كنا نملك موهبة الكشف المبكر عن الكذب وفرز الشخصيات الزائفة، لتجنبنا كثيرا من الأزمات وربما تجنبنا فشل الثورة نفسها، هذا على افتراض أننا حين قمنا بالثورة رافعين شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية"، كنا صادقين ومتسقين مع أنفسنا ونؤمن فعلا بقيمة الحرية والعدالة الاجتماعية، فقد رأيت بنفسي من ملأوا الدنيا ضجيجا عن الحقوق والحريات، وكانوا هم أنفسهم أول من فشلوا في تحمل الرأي الآخر، وتعاملوا بحدة مع المختلفين معهم باستعلاء لا يليق بمن يتحدثون خلف الشاشات عن حرية الرأي وحق الاختلاف، وكم توقعت أو تخيلت بينما هم مستغرقون في حواراتهم الإعلامية سواء عن الحقوق أو المباديء أو ادعاء النقاء الثوري، أن يخطيء أحدهم ولو مرة فيقول " أنت تكذب يا لينكولن".


شمعي أسعد
6 أكتوبر 2014

المقال على دوت مصر